نادراً ما يُجري صنّاع القرار في لبنان نقاشات حول السياسات، أو يبذلون جهوداً لتعزيز الصادرات اللبنانية، على الرغم من وجود فرص كبيرة للتحسين في حال اتّخاذ التدابير المناسبة. وتشهد الصادرات الصناعيّة في لبنان منذ فترة تراجعاً مطّرداً، فقد انخفضت من 5 مليارات دولار في العام 2012 إلى 3,9 مليارات دولار في العام 2017. ولا يبدو الوضع مختلفاً هذه السنة. فقد تفاقم عجز الميزان التجاري في النصف الأوّل من العام 2019، ومن المتوقّع أن يستمرّ في التفاقم لبقيّة العام. ويدعو هذا الواقع إلى الأسف، لأنّ تعزيز الصادرات يمكن أن يؤدي إلى تخفيف عجز الميزان التجاريّ وإلى خلق فرص عمل جديدة وزيادة النموّ بشكل سريع نسبيّاً، ولا سيّما أنّ القطاع تمكّن من بيع بعض منتجاته بطريقة تنافسيّة في الأسواق العالميّة.
ميزات نسبية في 337 منتجاً
في هذا الإطار، أظهرت دراسة أجراها المركز اللبنانيّ للدراسات مؤخّراً أنّ لبنان يتمتّع بميزة نسبيّة في 337 منتجاً مصدَّراً من أصل 1147 منتجاً. ويعني ذلك أنّ لبنان قادر على بيع هذه المنتجات بما يتخطّى حصّته في السوق العالميّة، ويتمتّع بالتالي بميزة نسبيّة في تصنيع هذه المنتجات وتصديرها. وفي اللغة الاقتصاديّة، نقول إنّ الميزة النسبيّة الظاهرة لهذه المنتجات ــ أي نسبة هذه المنتجات من صادرات البلد الإجماليّة مقسومة على نسبتها من الصادرات العالميّة الإجماليّة ــ هي أكبر من واحد. فإذا كان للمنتج ميزة نسبيّة ظاهرة أكبر من 1، يعني ذلك أنّ البلد يتمتّع بميزة نسبيّة في هذا المنتج. من هذا المنطلق، يتمتّع لبنان بميزة نسبيّة ظاهرة أعلى من 5 في 132 منتجاً، وبميزة نسبيّة ظاهرة أعلى من 10 في 41 منتجاً.
وتشكّل هذه المنتجات (337 منتجاً) 30% من مجموع المنتجات المصدَّرة، وقُدّرت قيمتها بـ2,7 مليار دولار في العام 2017، أي 70% من قيمة الصادرات الإجماليّة في العام نفسه. وتتوزّع هذه المنتجات على 16 قطاعاً، ما يدل على القدرة التنافسية: 19% منها هي في قطاع الأطعمة الجاهزة، و17% منها هي في قطاع اللؤلؤ الطبيعيّ أو الصناعيّ، و15% في قطاع الكيماويات والصناعات الحليفة، و13% في قطاع الآلات والمنتجات الزراعيّة، و11% في قطاع المعادن الأساسيّة، و7% في قطاع الخضار، و6% في قطاع لبّ الخشب، و4% في قطاع الأقمشة، و4% في قطاع البلاستيك والمطّاط، و5% في قطاعات أخرى.
وغالباً ما تتمتّع المنتجات في قطاعَي الأغذية الزراعيّة والكيماويّات بميزة نسبيّة عالية. وثمّة 24 منتجاً من قطاع الأغذية الزراعيّة ذا ميزة نسبيّة ظاهرة أعلى من 1، مع إمكانات تصدير غير مستغلّة بقيمة 140 مليون دولار، وعشرة منتجات ذات ميزة نسبيّة ظاهرة أكبر من 10 (231 مليون دولار). وعلى وجه التحديد، إنّ المنتجات الثلاثة الأولى التي تتمتّع بأعلى إمكانات التصدير غير المستغَلّة هي: عصائر الفاكهة (رمز النظام المتناسق 2009) بقيمة 24 مليون دولار، والشوكولا (رمز النظام المتناسق 1806) بقيمة 22 مليون دولار، والمياه، بما في ذلك المياه المعدنيّة (رمز النظام المتناسق 2202) بقيمة 17 مليون دولار. وهي تصدّر بغالبيتها إلى الدول العربيّة، كالمملكة العربيّة السعوديّة والكويت والإمارات العربيّة المتّحدة.
وإذا نظرنا عن كثب إلى مستوى المنتجات، يمكننا أن نحدّد لكلّ منتج الأسواق التي ينبغي استهدافها من خلال تحديد خصائص/ مؤشرات الطلب والوصول إلى الأسواق العالمية. على سبيل المثال، إنّ السوقَين الأكبر حجماً للشوكولا (رمز النظام المتناسق 180631) هما المملكة العربيّة السعوديّة (إمكانات تصدير غير مستغلّة بقيمة 4,4 ملايين دولار)، والكويت (1,4 مليون دولار)، تليهما مصر (1,3 مليون دولار)، والجزائر (692 ألف دولار)، والبحرين (586 ألف دولار). ومن الأمثلة الأخرى على الأطعمة الجاهزة المشروبات غير الكحوليّة (رمز النظام المتناسق 220299) التي تترّكز أسواقها المحتملة في الأردن (4,4 ملايين دولار)، والمملكة العربيّة السعوديّة (386 ألف دولار)، والولايات المتّحدة الأميركيّة (924 ألف دولار).

تنويع الوصول إلى الأسواق
وعليه، فإن تحسين وضع المنتجات الزراعية التنافسية يمكن أن يزيد الصادرات إلى سوق الشرق الأوسط. في الواقع، 40٪ من إجمالي صادرات لبنان موجهة إلى أسواق الشرق الأوسط المجاورة، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وتركيا والعراق وسوريا وغيرها، ما يجعل المنطقة مركزية للصناعة اللبنانية. ومع ذلك، واجهت الصادرات اللبنانية إلى هذه الأسواق تحديات كبيرة، وشهدت انخفاضاً مستمراً بقيمة 324 مليون دولار على مدار السنوات الخمس الماضية. تم تسجيل أكبرها لدى أكبر مستوردين للبنان: المملكة العربية السعودية (178 مليون دولار) والإمارات العربية المتحدة (81.7 مليون دولار) والأردن (62 مليون دولار) وسوريا (47 مليون دولار).
وقد حافظ قطاع الكيماويّات على زيادة محدودة في قدرته التنافسيّة على مرّ السنين بفضل تخصّصه في إنتاج الكيماويّات الفاخرة، كالعطور ومنتجات التجميل الأخرى. ويُصنّع لبنان حوالى 110 منتجات مختلفة في هذا القطاع، تشمل الكيماويّات الأساسيّة، والصابون، والمنظّفات، ومستحضرات التجميل، والبلاستيك، والمطّاط، ومنتجات النفط المكرّرة، والطلاء. أمّا بالنسبة إلى المنتجات الكيماويّة التي تتمتّع بميزة نسبيّة ظاهرة أعلى من 1، فثمّة 13 منتجاً ذا إمكانات تصدير غير مستغلّة بقيمة 68 مليون دولار. وخلافاً للأغذية الزراعيّة، لا تتركّز الأسواق المحتملة لهذه المنتجات في العالم العربيّ وحده، بل تشمل هولندا وبيلاروسيا وإسبانيا والبرتغال وسويسرا، إضافة إلى الدول العربيّة المجاورة. وعلى سبيل المثال، يتمتّع لبنان بإمكانات لتصدير منتجات الطلاء بقيمة 815 ألف دولار: صادرات بقيمة 341 ألف دولار إلى الكويت، و290 ألف دولار إلى بيلاروسيا، و152 ألف دولار إلى الإمارات العربيّة المتّحدة.
تشهد الصادرات الصناعيّة اللبنانية تراجعاً مطّرداً، إذ انخفضت من 5 مليارات إلى 3.9 مليارات دولار بين عامي 2012 و2017


وبالتالي، إضافة إلى تحسين الصادرات إلى الدول العربية المجاورة، توفر الصادرات الكيمياوية فرصة لتنويع الوصول إلى الأسواق. فإنها تمكّن من فتح أسواق جديدة ومشاريع إنتاجية، ومن تعزيز وضع القطاع الصناعي في لبنان. وتساعد المنتجات الكيماوية التي تُعتبر متوسطة التعقيد المنتجات اللبنانية في تحديد أسواق أكثر تعقيداً جديدة تعتبر تنافسية أكثر، مثل أوروبا أو أميركا الشمالية. إضافة إلى ذلك، يمكن للتكنولوجيات والقدرات المستخدمة في إنتاج المواد الكيماوية أن تشجع المزيد من الابتكار داخل القطاع من خلال تسهيل إنتاج منتجات جديدة وأكثر تعقيداً.

أبعد من الدعم
توفر صادرات لبنان التنافسية نقطة انطلاق لوصول أوسع إلى الأسواق وفرصة لزيادة تنويع الإنتاج. وبغية الاستفادة من ذلك، ينبغي تحقيق الدعم والتنسيق الضروريّين بين الحكومة والصناعيين. ويتطلّب ذلك تعاون وزارة الصناعة مع جمعية الصناعيّين اللبنانيّين للتعزيز الاستراتيجي لمنتجات معيّنة تتمتّع بقدرة تنافسيّة عالية وتلبّي التغيّرات في الطلب في الأسواق العالميّة.
لكنّ الدعم وحده لا يكفي، بل تدعو الحاجة أيضاً إلى اتّفاقات تجاريّة تسهّل دخول الصناعيّين اللبنانيّين إلى أسواق مختلفة. فعدم وجود قنوات تسويق مُمأسسة ومتطوّرة للدخول إلى الأسواق الأوروبيّة، وغياب الاعتمادات والشهادات، والأداء الضعيف للمختبرات المحليّة، وعدم القدرة على استيفاء المعايير الدوليّة، تشكّل جميعها تحدّياً كبيراً وتحول دون دخول المنتجات اللبنانيّة بحرية إلى الأسواق الأجنبيّة.
ويتعيّن على الصناعيّين أيضاً تحسين أدائهم؛ فالاختلافات في معايير السلامة والتتبّع هي من أبرز الحواجز التي تعيق دخول أسواق التصدير العالمية. وبالفعل، ترفض الأسواق الأوروبيّة أكثر من 50% من صادرات الأغذية الزراعيّة اللبنانيّة بسبب المخالفات في الترميز والتعليب، فيما ترفض 35% منها بسبب المضافات الغذائيّة غير القانونيّة. وبالتالي، ينبغي أن يبذل الصناعيّون مزيداً من الجهود للالتزام بالقواعد والأنظمة الخارجيّة.
أخيراً، يتعيّن على السلطات والصناعيّين في لبنان الاستثمار في أنشطة البحث والتطوير لمواكبة الاتّجاهات العالميّة وسلوك المستهلكين، والتركيز أيضاً على تطوير المنتجات وعلى البحوث العلميّة المبتكرة التي لا ينخرط فيها الكثيرون. ويعاني لبنان أيضاً نقصاً في الدراسات المتعمّقة حول الأسواق الأجنبيّة التي تُعتبر أساسيّة لصياغة استراتيجيّة تصدير فعّالة، ويجب عليه بذل مزيد من الجهود في هذا المجال.
ممّا لا شكّ فيه أنّ لبنان يستطيع استغلال قدرته التنافسيّة في قطاعات ومنتجات متعدّدة، وعليه أن يضع خطّة في أقرب وقت ممكن من أجل تعزيز صادراته.

* باحثون في المركز اللبناني للدراسات