إذا كنّا محظوظين فسيكون العالم يقف الآن على شفير انتقال سريع إلى مرحلة ما بعد الكربون. ونحن على علم كيف سيقاس هذا الانتقال؛ فالهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ IPCC ومنظّمات أخرى، وضعت مقاييس مفصّلة وجداول زمنية لذلك. والخلاصة أن علينا أن نخفّض انبعاثات الكربون إلى النصف بحلول 2030 والوصول إلى مستوى صفر من الكربون بحلول 2050.ولكن، لنفترض أننا على المقياس الزمني نفسه أردنا أن نبدأ الانتقال إلى مرحلة ما بعد الرأسمالية. فكيف نقيس ذلك؟ المرّة الوحيدة التي حاول أحد ذلك كانت مع فلاديمير لينين وعجرفة «شيوعية الحرب،» وانتهت بانحلال وتصلّب اتحاد الجمهوريات السوفياتية لليونيد بريجنيف. وكان أحد أكثر جوانب عمليّة الانتقال السوفياتي الفاشلة إثارة للذهول هو الارتباك النظري التام.
فهم الاقتصادي يفغيني بريوبراجنسكي الانتقال بأنه تبادل بين القوانين الموضوعية للسوق ومحاولات تخطيط الاقتصاد. ولكن في ظل العقيدة الستالينية كانت العمليّات الموضوعية الكامنة وراء آليات التوزيع في السوق قد انتهت.
تعتمد أطروحة ما بعد الرأسمالية مساراً مختلفاً أبعد من السوق، يقوم على الأتمتة الحاسمة للنشاط الإنتاجي وفصل العمل عن الأجر والاستفادة من تأثير الشبكة وإتاحة البيانات للجميع. وتدعو الدول إلى:
• إتاحة ولادة قطاع اقتصادي غير سوقي يتشكّل من صناديق تعاضد وتعاونيات ومجمّعات وفرة نسبية،
• توسيع القطاع الحكومي لتأمين الخدمات الأساسية الشاملة والدخل الأساسي،
• تعزيز تأثيرات الشبكة من أجل خلق منفعة عامّة مجّانية لا تتحكّم فيها الملكية الخاصة والتبادل السوقي،
• سنّ قوانين لكسر الاحتكارات التكنولوجية وإثباط نماذج الأعمال التي تسعى إلى الريع، من بينها الباحثة عن الريع التقليدي مثل المضاربين العقاريين والماليين.

نظرية قيمة العمل
ولكن كيف نقيس التقدّم؟ على الرغم من أن بريوبراجنسكي أخطأ في العديد من الأمور، إلّا أن أحد أهمّ الأمور التي قدّمها للاقتصاد الانتقالي هو أن على الدولة إزالة الغموض عن خطواتها الخاصّة. ففي حين أن ماركس وكذلك سميث وريكاردو استعملوا نظريّة قيمة العمل كسبيل لإزالة الغموض عن العملية الكامنة وراء التبادل التجاري، أرادها بريوبراجنسكي أن تقود السياسة.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

وتفترض النظرية أن القيمة النقدية لكلّ شيء يتمّ إنتاجه ضمن اقتصاد معيّن تساوي القوة المبذولة في العمل لبلوغ المُنتج الكامل. وبالنسبة إلى الماركسيين، يشتمل ذلك على العمالة الحيّة و«الميتة»، أي العمل المُنجز مقابل أجر في فترة معيّنة زائداً العمل الذي تقوم به الآلات، إضافة إلى المواد الخام والمصانع والتدريب والطاقة وما إلى ذلك. والأسعار هي المقياس لمقدار وقت العمل المجرّد في كل سلعة.
في الرأسمالية التقليدية، يحصل توليد الفائض عن طريق إجبار اليد العاملة على القيام بالمزيد من العمل أكثر ممّا هو مطلوب لإعادة إنتاج قوة العمل. إلّا أن رأسمالية المعرفة قصّرت عملية إعادة الإنتاج التقليدية للرأسمال من ناحيتين.
أوّلاً ما يسمّى تأثير التكلفة الحدّية (الهامشية) الصفرية الذي ينخفض فيه سعر السلعة ليساوي كلفة إنتاجها تاركاً الشركات تعتمد بشكل كبير على القوة السوقية (على العمّال والمستهلكين والشركات الأخرى) لتدافع عن تسعير هامش الربح. ثانياً تكنولوجيا المعلومات بإمكانها أن تحفّز الأتمتة بشكل يدمّر الوظائف ويجرّدها من المهارات بشكل أسرع ممّا لو أعيد إنتاجها عبر الحاجات الجديدة والأشكال الجديدة من الندرة.

انخفاض ساعات العمل
في صميم عملية الانتقال ما بعد الرأسمالي يكمن تعزيز هاتين النتيجتين. فتفكيك و/أو الاستحواذ الحكومي على الشركات الكبرى، وإزالة قدرتها الضارية على التسعير، يشجّعان على انهيار الأسعار نحو مستوى تكاليف الإنتاج. وفي الوقت نفسه، فإن تعزيز المساومة على الأجور وتوفير أجر اجتماعي عالٍ من الخدمات العامّة المجّانية وتحقيق الرفاهية الشاملة تشجّع الأتمتة السريعة للاقتصاد، ما يؤدّي إلى انخفاض ساعات العمل اللازمة لإعادة إنتاج الحياة البشرية.
كتب بريوبراجنسكي أنه «بالنسبة إلى الحقبة الانتقالية... فإن المقياس الذي يحدّد نجاح المجتمع الجديد هو زيادة كمّية المنتجات (وليس السلع) التي تتعامل معها الأجهزة الموزّعة للدولة البروليتارية». ولكن بالنسبة إلى عملية الانتقال ما بعد الرأسمالية القائمة على فكرة الاستبدال العضوي الدقيق لعلاقات السوق بعلاقات تعاونية، فإن قياس المخرجات استناداً إلى كمّية المنتجات سيكون غير مناسب تماماً (واضعاً جانباً المشكلة البيئية الواضحة لقياس النجاح بهذه الطريقة).
لا يعتزم ما بعد الرأسماليين إنشاء دولة ذات «أجهزة توزيعية» بل قطاع غير سوقي يتمتّع بديناميّات خاصّة وعفوية: اتحاد للائتمان، بنك لا يبغي الربح، منصّة تعاونية، مشروع مفتوح المصادر للبرمجيات، ثقافة تطوّعية، مشروع ثقافي مدعوم، وما إلى هنالك. لذلك، لا يمكن أن يكون «المقياس» هو عبارة عن «أشياء يتمّ إنتاجها خارج السوق»، بل عن النسبة المتناقصة لساعات العمل المبذول مقابل أجر، مقارنة بالساعات التي نقضيها في أوقات الفراغ والنشاط غير المأجور.
في المملكة المتّحدة، انخفض متوسّط العدد السنوي لساعات العمل لكل عامل منذ عام 1950 من 2200 إلى 1700 ساعة. فهناك 8760 ساعة في السنة، إذا خصمنا 2920 ساعة للنوم، فهذا يعني أن العامل العادي يستمتع بـ4140 ساعة فراغ في السنة (إذا افترضنا أنه قضى عطلة لمدّة خمسة أسابيع وعطلة نهاية الأسبوع والعطلات الرسمية وغيرها من الإجازات).
ولكن لا يبدي الاقتصاد السائد اهتماماً كبيراً بوقت الفراغ كنشاط إنتاجي. فيفترض أنه خلال الوقت الذي لا يعمل فيه، لا يكون العامل ناشطاً اقتصادياً إلّا كمستهلك. حتى اقتصاد النقابات يعتبر التوازن بين العمل والحياة مجرّد عمل مقابل وقت الفراغ.

خطّ فاصل مُبهم
ولكن خلال أقل من جيل، بدأت تكنولوجيا المعلومات الشبكية بطمس الخطّ الفاصل بين العمل وأوقات الفراغ. فأصبحت ساعات العمل البالغة 1700 ساعة تشمل الوقت الذي نقضيه على الهواتف الذكيّة أو على استخدام كمبيوتر العمل لإجراء معاملات المستهلكين أو إجراء تفاعلات شخصية. وعلى الرغم من استحالته في الوظائف «العالية الإكراه» وفي الوظائف التي تتطلّب أدنى المهارات في سوق العمل، تمّ إرساء الحقّ في القيام بهذه الأنشطة بين شرائح واسعة من الطبقة العاملة مقابل أجر والطبقات المهنية.
المطلوب هنا أن يقوم هؤلاء العمّال بعمل هائل مقابل وقت فراغهم. وبالنتيجة، فإن الهوس الرأسمالي بإنشاء وحدات مُجرّدة من وقت العمل وفرض حركات مُحدّدة على العمّال، وهو ما بدأ في ظل التايلورية في تسعينيات القرن التاسع عشر، أصبحا أقل أهمّية من إنجاز المشاريع في مهل محدّدة وبجودة معيّنة.
بدلاً من مسار واحد لإنتاج القيمة نابع من الاستغلال في مكان العمل، هناك الآن ثلاثة مصادر لإنتاج القيمة تكمن في أنشطتنا النمطية. الأوّل هو العمل الذي ينتج فائض القيمة بالمعنى الماركسي التقليدي ويوفّر الأجور التي يمكن بها تحقيق الفائض من خلال الاستهلاك. ثانياً، الاستغلال المالي، عن طريق نظام الائتمان: القروض العقارية وديون بطاقات الائتمان وقروض السيّارات وقروض الطلاب وتوريق المدفوعات العادي. ثالثاً، استخراج البيانات، حيث تستخدم فئة جديدة من الشركات تأثير التكلفة الحدّية الصفرية لتوفير سلع تكنولوجية بأقل من سعر الكلفة وإنشاء «حديقة مسوّرة» من الخيارات المتاحة للمستهلكين حيث تُعرض علينا سلع مرتفعة السعر (مثل محتوى نتفليكس) أو يتمّ بيع بياناتنا السلوكية للمعلنين والمسوّقين.

تداعيات عميقة
يترتّب على ذلك تداعيات عميقة للنقابة العمّالية الثنائية البعد أو النظرة الديموقراطية الاجتماعية لميزان العمل والحياة، الذي لا يمكن أن يتعلّق فقط بتخفيض معدّل ساعات العمل في السنة البالغ 1700 ساعة بنسبة الخُمس.
يحتاج رأسماليو المعرفة والساعون وراء الريع، قبل كلّ شيء، إلى قوّة عاملة يتمّ توظيفها بشكل آمن بما يكفي للوصول إلى أهمّ جهازين: الهاتف الذكي والحساب المصرفي (اللذين يتمّ دمجهما في تقنية واحدة عبر محفظة أبل وباي بال، والعملة الرقمية الجديدة لفايسبوك). فهم لا يحتاجون إلى أن يكون معدّل استخراج الفائض عالياً داخل العمل الإنتاجي نفسه كي تبدو الأجور مرتفعة بما يكفي لتتوافق مع سعر الفائدة، وأن يكون الانضباط في العمل ضعيفاً بما يكفي حتى تتمكّن الموظّفة من استخدام هاتفها.
يمكننا نظرياً أن نوسّع «وقت الفراغ»، وفي الوقت نفسه أن نسهّل استعباد أجزاء كبيرة من القوة العاملة في إطار هذه الأشكال من الاستغلال التي لا ترتكز على العمل. غير أنه في المشروع ما بعد الرأسمالي، لا تقوم الفكرة ببساطة على تقليص ساعات العمل مقابل أجر، بل على توسيع عدد الساعات التي تصرف من دون منح قيمة لرأس المال. وفي صلب ذلك يكون تخصيص جزء محدّد من يوم العمل أو الأسبوع أو السنة لقضائه في إنشاء فائدة غير سوقية - المشاركة في مشروع برمجيات مفتوح المصادر أو حاضنة يديرها المجتمع أو التطوّع في مزرعة في المدينة أو ببساطة خلق ثقافة يستهلكها الآخرون.
لا يعتزم ما بعد الرأسماليين إنشاء دولة ذات «أجهزة توزيعية»، بل قطاع غير سوقي يتمتّع بديناميّات خاصّة وعفوية، حيث يكون «المقياس» هو النسبة المتناقصة لساعات العمل المبذول مقابل أجر، مقارنة بالساعات التي نقضيها في أوقات الفراغ والنشاط غير المأجور


يجب أن تتضافر الجهود على جبهات عدّة من أجل تحقيق المشروع. فالسعي وراء تشريعات لتخفيض أسبوع العمل من دون تكبيد الأجور أيّ خسارة، يعزّز الأتمتة. وفرض دخل أساسي عالمي وخدمات شاملة يقدّم أيضاً الدعم لتسريع الأتمتة. وهذا يضعف الرابط بين البقاء (عيش الكفاف) والعمل، ما يتيح للمزيد من الناس الصمود مع ندرة الوظائف ذات الأجور الجيّدة، ويعوّض عن ضعف القوة التفاوضية لليد العاملة في اقتصاد زئبقي ومالي.
حتى الانتقال من أسبوع عمل من خمسة أيام إلى أسبوع من أربعة أيام من شأنه أن يقود إلى تحوّل ثقافي هائل في المواقف من العمل: فالذين خضعوا للتجربة يقولون إنّه يخلق أكثر من مجرّد «عطلة نهاية أسبوع طويلة للغاية» بل له أيضاً تأثيرات نوعية على الإبداع خلال أسبوع العمل، ويحسّن الرفاهية ويحث على أنشطة جديدة خلال فترات اللاعمل.
ولكن الانتقال إلى أسبوع عمل من ثلاثة أيّام من شأنه أن يذهب أبعد من ذلك: من شأنه أن يحوّل اللاعمل إلى قاعدة عامّة والعمل المدفوع إلى استثناء. فالإنتاج والاستهلاك الثقافيان من قبل قوة عاملة أقل إجهاداً، وأكثر تعليماً، سيصبحان سمة حياتية رئيسية بالنسبة إلى الجماهير.

ازدهار القطاع غير السوقي
وفي هذا السياق، سيبدأ دعم الدولة لنماذج الأعمال غير السوقية في خلق قطاع اقتصادي غير سوقي مزدهر مع قوى داخلية خاصّة متآزرة. وسنشهد تشكّل سلاسل إمداد غير سوقية، بالإضافة إلى المزيد من أوجه التآزر الأفقية القائمة بين تعاونيات المستهلكين والمنتجين في مدن مثل مدريد وأمستردام (حيث تشجّع الدولة على إنشائها). لا شيء غير الطبيعة الضارية للشركات الحالية التي يعزّزها ضعف المشرّعين، يمنعنا من تكليف التعاونية لتكون الشكل السائد لأي شيء من طلب تاكسي إلى التملّك القصير الأجل. والأمر نفسه ينطبق على توفير الدول رأس المال للتعاونيات والمصارف غير الربحية.
وكما حاججت في كتابي «ما بعد الرأسمالية»، فإن دور الدولة ليس التخطيط لتحقيق مخرجات دقيقة، بل لخلق مساحة لمؤسّسات جديدة وأشكال ملكية ومصادر رأسمال وسلوكيات منتجة. بالنسبة إلى بريوبراجنسكي - الذي أطلق عليه الرصاص خلال حملة «التطهير الأعظم» في العام 1937 - فإن قياس تقدّم الاشتراكية كان عدداً من الأمور التي تقدّمها الدولة. وحقّ العامل في هذه الأمور كان دائماً مرتبطاً بكمّية العمل المُنجز، عبر نظام رمزي أو عملة غير قابلة للتداول.
بالنسبة إلينا، فإن قياس تقدّم مرحلة ما بعد الرأسمالية هو خفض ساعات العمل في نظام الأجور ورفع وقت الترفيه الذي ينفق من دون منح قيمة لرأس المال عبر استخراج البيانات ورفع حجم الأنشطة التي تحصل في المؤسّسات غير السوقية. لذلك، من غير المرجّح، أن يكون الحصول على الخدمات والأجر الأساسي مرتبطاً بساعات معيّنة من العمل أو بمستوى مهارات معيّن. وفي مجتمع متقدّم، يجب أن يكون ذلك من دون شروط، وبالتالي شاملاً.
وعلى الرغم من أنه ستكون هناك مقاييس أخرى - مثل انخفاض الفقر وارتفاع الرفاه وتراجع معدل الفائدة المستحقّة على المستهلكين - إلّا أن المقياس النهائي للانتقال إلى ما بعد الرأسمالية هو الوقت.

* SocialEurope
* ترجمة: لمياء الساحلي

بول ماسون كاتب بريطاني رائد ومقدّم تلفزيوني ومؤلّف كتاب «ما بعد الرأسمالية: دليل إلى مستقبلنا» (Postcapitalism: A Guide to Our Future).