بغداد | لم تكن علاقة رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، مع حكومة إقليم كردستان لتنتهي بهذا الشكل من التوتر. إذ انتزع العبادي، ومنذ وصوله إلى سدّة رئاسة الوزراء (آب/ أغسطس 2014)، حجج أربيل وذرائعها. وإن اتسمت سياسته بـ«النعومة»، إلا أنها خنقت حكومة الإقليم عبر التهديد بالعودة إلى الدستور. ولكن، لنعد قليلاً إلى الوراء، ونسأل: كيف كسبت أربيل المجتمع الدولي؟أجاد ساسة الكرد استثمار إرث إضطهادهم إبّان حكم نظام صدام حسين. ما من حواجز أو عوائق تمنعهم من التعاون مع مختلف الأطراف الدولية، وما زال الغرب يرى فيهم الحليف الاستراتيجي في «بلاد الرافدين». وقد سهّل قادة الإقليم من تحرّكات الأطراف الدولية، كذلك مع الدولة التركية، إضافةً إلى علاقةٍ تاريخية مع الكيان الإسرائيلي. في الوقت عينه، يمتلك هؤلاء علاقاتٍ جيدة مع دوائر القرار في طهران. استطاع ساسة «الإقليم»، ضبط إيقاع هذه التناقضات بطريقةٍ حِرَفيّة تُحسب لهم.
وبالعودة إلى علاقة العبادي مع ساسة الإقليم، يمكن إيجازها وفق المحطات/ العوامل التاليّة:
1- لدى تشكيل الحكومة، وقفوا إلى جانبه؛ لكن ما يُسجّل للعبادي آنذاك، أنه لم يَعِد المفاوضين الأكراد إلا بالحقائب الوزارية. ثمة من يقول من المقربين منه، إنه استطاع إعادة ثقة المجتمع الدولي ببغداد، وفي تعامله شخصيّاً مع الأطراف السياسية الأخرى، فقد كانت هناك شراكة حقيقيّة من قِبَل الأطراف الثلاثة.
2- شيئاً فشيئاً، تحوّلت بغداد إلى محطة للوفود الأوروبية والغربية. عندها، بدأت أربيل تشعر بأنها المحطة الثانية من الاهتمام. عودة الثقة الدولية بحكومة العبادي، منحت الأخيرة فرصاً جديّة للعمل الثنائي، خاصّة مع المنظمات والهيئات الدوليّة. كل ذلك لم يكن في مصلحة أربيل، التي لم تجد ما تثيره في ذلك الظرف، خصوصاً أن بغداد تمسك بزمام المبادرة، وهي رأس الحربة في مقاتلة تنظيم «داعش».
3- أمام الانفتاح الدولي على الحكومة الاتحاديّة، عادت حكومة الإقليم لتفتح صفحة التخصيصات المالية من الموازنة، وهنا كانت بداية الخلاف، والذي حاول الساسة الكرد إثارته لرفع شعار الاضطهاد مرّة أُخرى.
هذا الأمر كان محسوباً بدقة؛ موظفو الإقليم يتقاضون رواتبهم من الموازنة المخصّصة، وأموال الموازنة تُسلّم إذا أوفت أربيل بما تصدّره من النفط، وبما صدّرته دون موافقة المركز منذ سقوط نظام صدام (نيسان/ أبريل 2003) حتى إثارة الأمر من قِبَل حكومة العبادي آنذاك. أما الذي أبرم هذا الاتفاق النفطي، فكان وزير النفط عادل عبد المهدي، مع تأكيده أن أربيل لن تمضي بهذا الاتفاق، على رغم الإجحاف الكبير فيه. أُلغي الاتفاق عمليّاً من قبل ساسة أربيل، وبقي الأمر معلّقاً: لم تسلِّم بغداد لأن أربيل لم تلتزم، والأخيرة تراهن على المجتمع الدولي في الضغط على بغداد في هذا السياق.
كان العبادي واضحاً في هذا الإطار مع كل الوسطاء، بأن أربيل تتجاوز صلاحياتها الدستورية في السياسة النفطية والمرافق الحدودية. لم يجد هؤلاء أي مسوّغٍ للوقوف معها، بل كانوا يحاولون إيجاد الحلول لإنهاء القتال مع «داعش»، وهي الورقة المهمة التي استطاعت بغداد أن تحوّلها لمصلحتها. كانت المرة الأولى التي وجد فيها ساسة «الشمال» أنفسهم محاصرين.
4- لم يرُق لأربيل هذا الوضع. وجد مسعود بارزاني نفسه محاصراً، وبغداد ترفض الدخول في مواجهةٍ إعلاميّة، عدا أنّه فشل في حشد رأي عام كردي ضد المركز. فما قاله - وما كسبه – عام 2014، قد يذهب سُدىً، بُعيد تصريحه أن المادة 140 قد انتهت، ولا توجد مناطق متنازع عليها! ولهذا، بدأ بتصدير أزمة جديدة، تحرج بغداد من خلال طرح استفتاء الانفصال الكردي. كادت هذه المغامرة البارزانية أن تنهي حياته السياسية، وقد أنهتها فعلاً، إذ اعتزال العمل السياسي بعد ذلك، غير أن اتفاق تشكيل حكومة عادل عبد المهدي (2018)، أعاد إليه الحياة مرّة أخرى.
في المقابل، تعامل العبادي مع الاستفتاء بأنّه أمر غير دستوري، وما بُني على الباطل فهو باطل، وأن عقوبات المركز أو إجراءاته المشددة ستبدأ بتطبيقها حال إجراء بارزاني استفتاءه. هذه المرّة – أيضاً - لم يجد بارزاني أي مؤيد له سوى تل أبيب وأبو ظبي. أما طهران وأنقرة، فقد هدّدتاه علناً وبرسائل خاصة، وقد عقدتا قمةً لمناقشة ذلك. وجّهت دعوة للعبادي، لكنّه رفض حضورها، لأنه لم يكن يملك أياً من مقوّمات القوّة.
5- بدأت بغداد بإجراءاتها العملية، وأعلنت غلق مطارات الإقليم أمام الملاحة الجوية العالميّة. اتفق العبادي مع أولاد الراحل جلال طالباني، على تعزيز وجود القوات العراقية في كركوك، وقد أصدرت بغداد مذكرة قبض بحق محافظها آنذاك (نجم الدين كريم، اعتُقل في لبنان لكن أُطلق سراحه، وقد توفي أخيراً في الولايات المتحدة الأميركيّة).
في البرلمان، قال العبادي واثقاً: «ربّ ضارة نافعة»، وما فُرض على بغداد من قِبَل أربيل - طيلة السنوات الماضية - سيتم تعديله. لم يصدر عنه أي تصريح استفزازي أو حماسي، بل كانت السياسة الناعمة ذاتها: نحن مع الدستور. هنا، وفي تشرين الأوّل/ أكتوبر 2017، بدأت بغداد في تنفيذ سيطرتها على المنافذ الحدودية الرسمية، بينما أبقت كُلّاً من تركيا والجمهوريّة الإسلاميّة في إيران على المنافذ غير الرسمية.
6- دخلت القوات العراقيّة كركوك بعملية ناجحة، ولم يواجه الجيش العراقي «قوات البيشمرگة». كانت الأوامر العسكرية واضحة: الدخول بطريقة الالتفاف، وعدم مواجهة نقاط سيطرة «البيشمرگة».
تفاجأ الجميع بدخول القوات العراقيّة إلى وسط كركوك، حيث أغلقت المقار الحزبية لـ«الثنائي الحاكم»، في وقتٍ لم يكن فيه أكثر الساسة تفاؤلاً في بغداد من أن تكون النتائج بهذه الطريقة، وقد حاول بعضهم نسب الأمر إلى آخرين، علماً أن الأطراف «الشيعية»، جميعها كانت قبل ليلةٍ في اجتماعٍ مغلق مع العبادي، حيث أبدت تخوفها من تهديدات مسعود والموقف الدولي.
أما العبادي فكان مطمئناً إلى النتائج، وكانت ردوده لهم – كما في الإعلام – ليس هناك استعراضٌ للقوة؛ لقد تطلّبت العملية ضبطاً للنفس.