من الواضح أنّ الاستحقاق التشريعي في حزيران المقبل لن يكون كأيّ انتخابات جرت في تركيا الحديثة، إذ إنّه يحلو للأتراك أن يصفوا الموعد بأنه سيكون الأهم منذ عام 2002. الأهم ليس لأنّ الوضع الشعبي والانتخابي لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم خطير أو مهدَّد، بل لأنّ هذا الحزب يأمل أن تكون الانتخابات المقبلة بمثابة قطف ثمار لكل ما أنجزه في الداخل وفي السياسة الخارجية منذ وصوله إلى السلطة في ذلك الأحد في الثالث من تشرين الثاني 2002. واختصر رجب طيب أردوغان نظرة حزبه لأهمية الاستحقاق المقبل بالقول إن «العدالة والتنمية» لم يعمل على تطبيق خطته الخاصة طيلة فترة حكمه، نظراً الى التحدّيات والتهديدات التي كانت محدقة به (من الجيش وأجهزته وأحزاب المعارضة والتطورات الإقليمية والدولية والاقتصادية التي طرأت)، وإن «مرحلة ما بعد 12 حزيران ستشهد فترة تطبيق كل ما كنا نريد تطبيقه ولم نتمكن من فعل ذلك».يدرك كل متابع للشأن التركي أنّ الفوز يبدو شبه محسوم لحزب أردوغان، بحيث تتراوح النسبة التي يتوقع أن ينالها بين 35 و47 في المئة من الأصوات، أي الغالبية الكافية للفوز بحصة الأسد في البرلمان وبحكومة حزبية من لون واحد. بالتالي، يمكن القول منذ الآن، أي قبل 49 يوماً من الانتخابات، إن حزب «العدالة والتنمية» سيكون أول حزب في تاريخ تركيا، منذ دخولها مرحلة التعددية الحزبية طبعاً، يؤلف حكومة حزبية من لون واحد لثلاث ولايات متتالية. نتيجة لا يعارضها الشعب التركي عموماً، بما أن الأرقام تشير إلى أن فقط 15 في المئة من الأتراك يودّون أن يحكم تركيا تحالف حزبي، وهو شعور ناتج جزئياً من نجاح «العدالة والتنمية» في عدد كبير من العناوين (أهمها اقتصادياً) من جهة، وفشل عقود كاملة من حكومات التحالفات الحزبية من جهة أخرى.
وفي مواجهة «العدالة والتنمية» حالياً، تشير آخر استطلاعات الرأي إلى احتمال أن ينال كل من «الشعب الجمهوري» نحو 26 في المئة و«الحركة القومية» 12 في المئة، وحزب الأكراد «السلام والديموقراطية» 6 في المئة تقريباً.
لكنّ الحزب الحاكم لا يخوض الانتخابات كي يفوز فقط، بل لكي يحقق فوزاً ساحقاً، لا لتسجيل النقاط على معارضيه العلمانيين الكماليين (حزب الشعب الجمهوري) أو القوميين (الحركة القومية التركية) أو الأكراد (السلام والديموقراطية) أو الإسلاميين (حزب السعادة)، بل لأنّ مشروع «العدالة والتنمية» يتطلب فوزاً غير عادي يبرّر له تطبيق برنامج طموح وصعب ويلزم صاحبه التمتّع بشعبية كبيرة جداً. وقد جاء «مانيفستو» (المشروع الانتخابي) حزب أردوغان غنيّاً بالمشاريع الكبرى، وغابت عنه مشاريع أخرى لا تقل حساسية. غابت لأنّ أردوغان ورجاله يدركون أنّ المشاريع التي من شأنها تعريضهم لخطر إجماع الخصوم ضدهم، يُستحسَن إهمالها مؤقتاً ريثما يحين وقتها، على طريقة ممارسة «التقيّة» لكن في السياسة، وهو ما يغذّي الاتهامات الموجهة دوماً للحزب الحاكم بأن لديه أجندة سرية عنوانها أسلمة تركيا.
هكذا، حضر في المانيفستو الانتخابي لـ«العدالة والتنمية» مشروع طرح دستور جديد «مدني وأكثر ديموقراطية شعاره الحريات. مقتضَب ويحاكي طموحات الشعب»، على حد وصف أردوغان له، ليحل مكان دستور انقلاب 1980 الساري المفعول حالياً. لكن غاب في المقابل حلم أردوغان بجعل النظام السياسي لتركيا الجديدة رئاسياً بدل أن يكون برلمانياً، بما أن هذه النقطة لا تزال موضع خلاف حتى بين «الأشقاء»، أي بين أردوغان والرئيس عبد الله غول، من دون أن يعني ذلك تراجع أردوغان عن مشروعه الرئاسي وفق ما يعرفه جميع الأتراك.
طموح المانيفستو الانتخابي لـ«العدالة والتنمية» يظهر في عنوانه: «تركيا مستعدة: الهدف هو عام 2023»، أي أنّ الحزب يتوقّع أن يحكم على الأقل لـ 12 عاماً مقبلاً، علماً بأن تاريخ 2023 اختاره أردوغان لكونه يحيل إلى الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية. وتتوزّع صفحات البرنامج على 5 فصول: تقدم الديموقراطية، اقتصاد ضخم، مجتمع قوي، مدن جديدة ودولة قائدة.
من هنا، فإنّ المشروع يعد بأن تصبح تركيا ضمن كبريات الدول العشر اقتصادياً في العالم (اليوم ترتيبها في المرتبة 16). مشروع أردوغان هو مشروع الأحلام المشروط دائماً بعبارة ضمنية هي «إن انتخبتمونا»: ستكون إسطنبول (في غضون 2023 دائماً) أحد أهم عشرة مراكز اقتصادية في العالم (حالياً تحتل المرتبة 27 من ناحية المدن الأكثر تأثيراً اقتصادياً في العالم). ستصل قيمة الصادرات التركية إلى 500 مليار دولار سنوياً. وسيصل المعدل السنوي للدخل الفردي للمواطن إلى 25 ألف دولار. وسيتخطّى الناتج الوطني الإجمالي لتركيا ألفي مليار دولار. سيصبح في إسطنبول مدينتان جديدتان (إحداهما في الشق الآسيوي الأناضولي والثانية في الجزء الأوروبي) بهدف حل أزمة اكتظاظ السكان فيها، علماً بأن أردوغان سيشرح تفاصيل هذا «المشروع المجنون» (على حد وصف تعليقات الأتراك إزاءه) غداً الأربعاء.
هذا في أهم البنود الاقتصادية الطموحة التي جاءت تحت عنوان «اقتصاد ضخم» من البرنامج الانتخابي الذي وضع في كتيّب ضخم نسبياً. كتيّب تحضر فيه الشعارات المناخية والمساواتية والجندرية والتربوية (جعل التعليم الإلزامي حتى سن الـ 13 مثلاً)، إضافة إلى عبارات تعزيز هويات المدن التركية الخاصة وحقوق الأطفال ومواصلة تعزيز استقلالية القضاء وحملات مكافحة عصابات «إرغينيكون» التي يترشح متهمون رئيسيون فيها على لوائح حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية. كل ذلك فضلاً عن مشروع إنمائي من 36 استثماراً إنمائياً هائلاً، إضافة إلى شق طرق جديدة سريعة وعادية على طول مئات الآلاف من الكيلومترات والأنفاق والجسور واستحداث شبكات جديدة من القطارات والمترو، وبناء مستشفيات ومدارس وجامعات ودعم التعليم العالي، وإيصال عدد الأطباء إلى 200 ألف ودعم الأسر الأكثر فقراً ...
أما في ما يتعلق بالمواضيع السياسية الساخنة، كالقضية الكردية مثلاً والأزمة العلوية، فلم تنل البنود اهتماماً استثنائياً لدى المعلّقين، من جهة لأن شيئاً جديداً استثنائياً لم يرد فيها، إذ ظلت عبارة «مشكلة الإرهاب» في تركيا يُرمَز فيها إلى المسألة الكردية، ومن جهة ثانية لأنّ جميع الأتراك يعلمون أنّ تعقيد الأزمات المذكورة يجعل منها أصعب من أن تُحَلّ ببرامج ومشاريع على الورق ستنتهي إلى الأدراج ما لم تتحلَّ الحكومة بالجرأة الكاملة للتطرق إلى جوهر المشكلة السياسية والتاريخية، مثلما حصل مع «خطة الانفتاح الديموقراطي» قبل ثلاث سنوات. بالتالي، يدرك الأتراك أن الأزمة الكردية، التي تبقى عنوان الفشل الأكبر لحكم «العدالة والتنمية»، ستكون، إن توافرت الإرادة السياسية، موضع معالجة سياسية تحاكي التطورات التي تطرأ على الأرض، وليس انطلاقاً من خطط ومشاريع انتهت إلى اللاشيء حتى الآن.



أين إسرائيل؟

السياسة الخارجية التي اندرجت تحت عنوان «الدولة القائدة»، نالت الحجم الأصغر من المانيفستو (10 صفحات)، ربما لعلم أردوغان ورفاقه بأنّ الدبلوماسية هي أقل ما تأتي بالأصوات في صناديق الاقتراع. ويلاحظ فيه غياب لأيّ ذكر لإسرائيل، بالإضافة إلى أرمينيا التي لا ترد على رأس أولويات برنامج «العدالة والتنمية»، الذي يكتفي بتحميل أرمينيا مسؤولية فشل تطبيع العلاقات التركية ـــــ الأرمينية. وأبرز ما يرد في شق الدبلوماسية، التشديد على همّ تطوير العلاقات مع الولايات المتحدة وروسيا، مع أولوية تنمية العلاقات مع دول الشرق الأوسط، وهو ما يتلاءم مع نتائج أحدث استطلاع للرأي، أفادت بأن 77 في المئة من الأتراك يؤيدون تعزيز تركيا علاقاتها مع جيرانها المباشرين. حتى أن مانيفستو أردوغان مرّ مرور الكرام على موضوع الاتحاد الأوروبي، مكتفياً بالإشارة، على سبيل التذكير، إلى أن الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي لا يزال هدفاً تركياً استراتيجياً رئيسياً.