تُشجع تجربة العقوبات التي فرضها الغرب على إيران وأدت في نهاية المطاف إلى طاولة مفاوضات، وإلى لين في مواقف الجمهورية الإسلامية في ملفاتها الداخلية والخارجية على حد سواء، إلى تكرار السياسة نفسها مع روسيا. غير أن وضعية البلد الأوراسي مختلفة كثيراً. من السهل طرح الحجة التالية: أكثر من ثلاثة أرباع صادراته التي تفوق 500 مليار دولار سنوياً، عبارة عن نفط وغاز ـ وبالتالي يُمكن إخضاعه عبر حظر وقوده الأحفوري عن العالم، وبالتالي حرمانه العملات الصعبة ـ إلا أن اعتماد أوروبا عليه يجعل من المستحيل اللجوء إلى هذا الخيار.

تقوم جميع التحليلات على هذا الواقع لشرح الخطوات التي يُمكن الغرب أن يتخذها ضد الكرملين، على خلفية سياسته الخارجية والإقليمية. ومع تمتع موسكو بهذا المعطى التفاضلي تُصبح العقوبات الأخرى، وبينها ما أقره الاتحاد الأوروبي أخيراً، عبارة عن خطوات ثانوية ترد عليها روسيا بطريقتها الخاصة.
حتّى الآن تبدو المعطيات مقبولة نسبياً من الطرفين، ويبدو فلاديمير بوتين ممسكاً بزمام الأمور، لدرجة أنه يهدد باجتياح كييف وباستعمال الأسلحة النووية.
وإذا زاد الغرب جرعته، فإنه يمكن أن تصل الأمور بالسلطات الروسية إلى حظر استيراد السيارات الغربية، أو حتى حظر مجالها الجوي أمام الخطوط الجوية التابعة للبلدان التي بادرت إلى فرض عقوبات عليها.
هي حرب يبدو أنها ستطول بين المعسكرين. تصنيفها «حرباً باردة جديدة» هو في محله تماماً. وانطلاقها بدأ يقولب المجتمعات المعنية، وتحديداً المجتمع الروسي.

الأزمة عمقت
مفهوم «ما فوق الوطني» في وجدان الشعب الروسي


أحد أبرز الأصوات الإعلامية الغربية، صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، قدمت أخيراً صورة موضوعية عن الحراك الحقيقي الذي يشهده المجتمع الروسي في وجه العقوبات الغربية على وقع الأزمة التي تعالجها البلاد في أوكرانيا: أضحت في مطاعم البلاد لوائح أطعمة خاصة بمواجهة العقوبات؛ في قطاعها العقاري قروض سكنية خاصة لمواجهة العقوبات وهلم جرا. إنها ثقافة مواجهة الغرب التي ترتسم من جديد من دون الاكتراث لوجود الأجبان الفرنسية أو التفاح البولندي في برادات العرض في متاجر موسكو.
تتحدث الصحيفة عن أن روسيا تبدو متحدة أكثر مما كانت عليه خلال سنوات طويلة. ينقل مراسلها، جاك فارشي، عن مجتمع رجال الأعمال وأصحاب المليارات التزامهم القضية الروسية في أوكرانيا، والتضحية بثرواتهم لقاء الحفاظ على شبه جزيرة القرم.
«أنا مستعد لتقديم كل ما أملك للدولة غداً إذا برزت الحاجة لذلك» يجزم سادس أغنى رجل في البلاد، غينادي تيمشينكو، في حديث لوكالة «إيتار ـ تاس» الرسمية.
هذه التصريحات ما فوق الوطنية تعكس مصالح مادية مباشرة لرجال الأعمال. فمع فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات جديدة على 24 شخصية روسية ـ تجميد أصول ومنع من السفر إلى بلدان الاتحاد ـ يبدو عمالقة البيزنس الروس بين فكي كماشة إذا ابتعدوا عن الكرملين.
ولكن «ما فوق الوطني» له بعد عميق في وجدان الشعب الروسي. وكل ما فعلته الأزمة الأخيرة مع أوكرانيا هو ري جذوره وإعادة إحيائه.
فلندع الأحلام السوفياتية وتغني الاوليغارشيين بالنظام الذي أغناهم في الأساس جانباً. بحسب استطلاع للرأي أجراه مركز ليفادا، المعروف بموضوعية نسبية لدى جس نبض الشارع الروسي، فإن نسبة التأييد للرئيس فلاديمير بوتين تقف عند 85%. ولدى حصر رأي المستطلعة آراؤهم بالقضية الأوكرانية، فإن نسبة التأييد ترتفع فوق هذا الرقم.
ليس هذا التأييد لسياسة الكرملين شعبوياً. فالماكينة الإعلامية الروسية هي المصدر شبه الوحيد تقريباً لمعلومات المجتمع الروسي. تشحن تلك الماكينة الوعي العام بـ «حقائق» على شاكلة أن ما يحصل في أوكرانيا هو مؤامرة غربية للوصول إلى ضرب نفوذ روسيا وسيادتها. وقد ظهرت مجسات التدخل الغربي في شرق أوروبا في أكثر من لحظة، أبرزها في تسريب المكالمة الهاتفية الشهيرة لمساعدة وزير الخارجية الأميركية، التي لعنت فيها الاتحاد الأوروبي برمته، وإصرارها على اختيار واشنطن لقيادي في المعارضة لتولي المرحلة ما بعد سقوط الرئيس المخلوع فيكتور يانوكوفيتش.
في روسيا هناك جبهة من دون شك، تُرفع عند أطرافها أعلام «الرفيق بوتين»، وفي المقلب الآخر، أي أوكرانيا التي تُعد المجال الحيوي الأول للغربي لمواجهة «أطماع روسيا التوسعية»، هناك حراك واضح لتعزيز قدرات القوات العسكرية لمواجهة الاجتياح الآتي من الشرق.
في ظل ضعف التمويل وجمع الموارد اللازمة لتعزيز قدرات الجيش، يزدهر نشاط المنظمات والمجموعات المختلفة لتأمين التمويل اللازم لهذا التطوير. مثلاً تركز مجموعة «أجنحة طائر الفينيق» على جمع الأموال لشراء طائرات الاستطلاع من دون طيار؛ وقد تمكنت أخيراً من إحياء طائرة أنطونوف تعود إلى عام 1979.
يذهب بعض التحليل إلى وجود سببين يعللان موقف الشعب الروسي من المواجهة مع أوكرانيا. الأول هو أن العائلات لم تفقد أبناءً في المواجهات القائمة، والتي تقتصر على معارك بين المتمردين الأوكرانيين والقوات العسكرية الأوكرانية. ثانياً، العقوبات الغربية لم تبدأ فعلياً بلذع الاسر.
بالتالي، فإنه إذا انخرط الجيش الروسي كلياً في الحرب وبدأ يفقد عناصر فإن المزاج الشعبي قد يتغير نسبياً. كذلك إذا تسارعت وتيرة التضخم ـ وقد ارتفع أخيراً إلى 7.5% ـ فإن الرأي العام سيتأثر حتماً.
بيد أن المخاوف من الوحش الآتي من الغرب على شكل حلف شمال الأطلسي أو الولايات المتحدة أو عنصرية حادة ضد القوميين الروس، تبدو أكثر تأثيراً على الروس من فقدان الأرواح في معركة أو معارك على طول الحدود الغربية. مثلاً، إحدى أشهر الكتائب الأوكرانية الموازية للجيش ـ «كتيبة آزوف» ـ ترفع الشعار النازي الجديد، «معلاق الذئب»، وتنشط في تدريب أبناء مدينة ماريوبول استعدادا لاجتياح روسي محتمل.
أمام هذا المشهد المتسم بخطورة غربية وبعنصرية أوروبية، يبدو أن المواطن الروسي سيكون مستعداً للتضحية ببعض الرفاهية، لتحمل تأثير العقوبات على حياته اليومية، ولدعم الكرملين في مواجهاته مع الغرب. المشكلة هي أن المواجهة قد تطول سنوات وربما عقوداً، كما حصل خلال الحرب الباردة. جميعنا يعرف نهاية تلك الحرب، ولكن لا يُمكن بأي شكل من الاشكال توقع كيف ستتطور الأمور عند ضفتي جدار القرم.