أغنياء الشمال احتكروا كميّات فائضة من اللقاح... ويسعون إلى بيعهاباريس ــ بسّام الطيارة
بدأ فيروس الأنفلونزا «إيه أتش1 أن 1» يصيب المجتمع الدولي بأشكال متنوعة وبطرق مختلفة؛ ففيما تعلن بعض الدول الفقيرة عدم قدرتها على الحصول على لقاحات واقية، بدأت بعض الدول بعرض ما «احتكرته مسبقاً» من لقاحات للبيع. هذه هي الحال في فرنسا، التي أعلنت أمس فجأة إلغاء طلبيات تصل إلى ٥٠ مليون جرعة، بينما تعلن دول أخرى مثل الصين التي يبلغ عدد سكانها ملياراً و٤٠٠ مليون نسمة أن الفيروس بدأ يمتد بسرعة إلى الريف، وأنه قد يُحدث ارتفاعاً في حالات الإصابة مع بداية عودة ملايين الأشخاص إلى بلداتهم عقب الإجازات، وسط نقص كبير في عدد اللقاحات المتوافرة. كذلك، فإن مصر أعلنت ارتفاع عدد المتوفين بالمرض في البلاد إلى ١٦٠ منذ مطلع الصيف، مع خوف من استفحال الأنفلونزا سريعاً في البلاد التي يتكدس معظم سكانها، البالغ عددهم نحو ٧٧ مليون نسمة، في مناطق عشوائية مزدحمة في وادي النيل الضيق.
وكُشِفَ النقاب عن محاولة السلطات الصحية الفرنسية بيع ملايين الجرعات الزائدة من اللقاح الواقي من فصيلة فيروس «أنفلونزا إيه أتش1 أن 1»، بعدما تبيّن لها أنها اشترت أكثر من حاجتها الفعلية من الجرعات، قبل أن تعلن وزيرة الصحة روزلين باشلو إلغاء عقود لـ٥٠ مليون جرعة أبرمتها الحكومة الفرنسية مع عدد من المختبرات العالمية لشراء ٩٤ مليون جرعة فردية من اللقاح الواقي بكلفة بلغت ٨٧٠ مليون يورو.
وجاء ذلك في أعقاب إجراءات مماثلة، الشهر الماضي، من ألمانيا وإسبانيا وسويسرا لتجربة الشحنات وخفضها وإعادة المخزونات الزائدة إلى المزوّدين أو بيعها إلى دول أخرى بسبب قلة استخدامها في الداخل.
وفسّر القيمون على الحماية الصحية في فرنسا «الخطأ» بأن الاعتقاد السائد كان وجود حاجة إلى حقن كل فرد بجرعتين لتحصينه من المرض، إلى أن اكتشف الأطباء حالياً أن جرعة واحدة تكفي. يضاف إلى ذلك أن عدداً كبيراً من الفرنسيين «لا يزال يتردد في التوجه إلى مراكز التلقيح»، ما أدى إلى فائض ضخم.
وبعد ورود أخبار عن بيع وزارة الصحة الفرنسية ٣٠٠ ألف جرعة إلى قطر وإمكان بيع نحو مليوني جرعة إلى مصر، والسعي إلى التفاوض مع كل من أوكرانيا والمكسيك، أعلنت باشلو فجأة، أمس، إلغاء العقود. إلغاء جاء وسط حملة انتقادات قادها الحزب الاشتراكي على «سوء إدارة أزمة الأنفلونزا»، مطالباً بتأليف لجنة تحقيق برلمانية، فيما تعالت أصوات تتهم الحكومة بالسقوط تحت «تهويل المختبرات» التي «موّلت أبحاثها» بالاعتماد على طلبيات ضخمة «غير ضرورية» أسهمت في رفع «أسعار أسهم الشركات» في البورصات العالمية.
كذلك تتهم جمعيات ناشطة الدول الغنية بأنها بحجزها بطريقة «أنانية» عدداً كبيراً من اللقاحات، «ساعدت» المختبرات الكبرى من جهة وسمحت لها بـ«التفاوض من موقع قوة» مع الدول الفقيرة، حيث «من المتوقع انتشار المرض فيها بقوة خلال الفترة المقبلة». ويعمّ القلق الأوساط الصحية العالمية بشأن عدم حصول عدد كاف من الناس في «دول الجنوب» على المصل الواقي من الفيروس، إذ ستصعب السيطرة على الأنفلونزا إذا انتشرت في الدول الفقيرة.

«السياسات الأنانية للدول» جاءت لتمثّل عقبة كبرى أمام تصدٍ منهجي ومدروس للوباء

وقد اشترت فرنسا اللقاحات من شركة «سانوفي باستور» ومن «غلاكسو سميث كلاين» ومن «نوفارتيس وباكستر إنترناشونال»، وبلغت أسعار وحدات التلقيح ما بين ٦ وعشرة يوروات. وبلغ عدد الذين تلقّوا اللقاح الواقي زهاء خمسة ملايين شخص حتى الآن من أصل ٦٣ مليون فرنسي، فيما أشارت بيانات نشرت قبل أيام إلى أن الفيروس المسبّب للأنفلونزا أدى إلى وفاة نحو ١٩٨ شخصاً إلى جانب عدد غير محدد في أراضي ما وراء البحار. لكنّ الأطباء لاحظوا تراجع عدد الإصابات الجديدة بدرجة كبيرة في الأسابيع القليلة الماضية، بسبب حملة الوقاية الصحية (تعقيم الأيدي وارتداء الأقنعة) التي أطلقت بكثافة، والحجر الصحي الذي طبّق بصرامة في المدارس والشركات وأماكن التجمع، فيما عدد الوفيات في العالم تجاوز ١٢٢٠٠ حالة حتى مطلع العام الجديد.
وفي محاولة لاستيعاب حملة الانتقادات الواسعة، ذكرت أوساط وزارة الصحة أن باريس «أعطت» منظمة الصحة العالمية 9.4 ملايين جرعة. ويقول بعض المراقبين إن إلغاء طلبيات فرنسا، إلى جانب إلغاء طلبيات من بعض الدول الغنية الأخرى، «سيفسح في المجال» أمام بعض الدول الفقيرة للحصول على «حصة» من اللقاحات. والسؤال هو بأي أسعار؟
إلا أن هذا، وإن دل على شيء، فهو أن التصدي لـ«وباء عالمي»، رغم جهود منظمة الصحة العالمية، جاء من دون أي مراعاة لـ«عولمة المخاطر»، وأن «السياسات الأنانية للدول» جاءت لتمثّل عقبة كبرى أمام تصدٍ منهجي ومدروس للوباء، كأنه يمكن وقف امتداد الوباء عند «حدود» الشمال مثلما تُرفع أسوار وحدود أمام المهاجرين القادمين من الجنوب.