ملاحقة عماد الكبير تُثمر اعتقالاً ومثولاً أمام محكمة الطوارئ القاهرة ــ وائل عبد الفتاح
رفض عبده بشدّة الذهاب بقدميه إلى مكتب النائب العام. ناصر أمين المحامي اقترح عليه تقديم بلاغ عن عدم الإفراج عن شقيقه من قسم بولاق الدكرور رغم صدور قرار من النيابة بإخلاء السبيل. الخوف تملّك عبده. وناصر رأى أنّ «هذه عودة إلى المربّع الصفر». وتفسيره أنّ ما حدث علامة على أنّ الناس في مصر لا يزالون يخافون من المطالبة بالحقوق الضائعة عند السلطة. عودة الخوف هزيمة لمحاولات الخروج من النفق المظلم.
صوت عبده كان يرتعش في الهاتف وهو يحكي قصة اصطياد شقيقه عماد الكبير، الذي سلّم نفسه بعدما ألقت الشرطة القبض على الشقيق الأصغر صدام. لم يكن يعلم بخبر تحويل شقيقه على محكمة أمن الدولة العليا طوارئ، وإن عرف فإنه لن يفهم دلالة القرار. سؤاله الشاغل كان «يعني همّا حَ يعتقلوا عماد».
لم يعرف عبده أنّ الموضوع أكبر من الاعتقال، إنها رسالة ترويع بالغة الدلالة. الحكومة لا تنسى ديونها، الانتقام غريزتها التي لا تنام.
قرار الإحالة صدر بعد أقل من ٢٤ ساعة من تسليم عماد نفسه للشرطة، التي قالت إنّ عماد قاد مجموعة من البلطجية، وصل عددهم إلى 23 شخصاً، واعتدى على العديد من أصحاب المحال التجارية في شارع ناهيا، ما أدّى إلى إصابة العشرات منهم بجروح خطيرة، وإلى إثارة الرعب بين المواطنين بسبب إطلاق الأعيرة النارية أثناء الاشتباك معهم.
هذه هي الاتهامات التي رفضها عماد، لكنها أسباب محاكمته أمام أقسى المحاكم الاستثنائية، وهي سابقة لم تحدث من قبل، كما أنها تفسير لقانون الطوارئ يخالف ما روّجت له أجهزة النظام في لحظات تجديده.
لدى عماد حكاية أخرى لم يُتح له أن يقولها، يؤكّد فيها أنه لم يكن في موقع المعركة، كما أنه سلّم نفسه ولم يكن بحوزته أسلحة، والأهم أنّ هذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها ضباط الشرطة توريطه في قضية بلطجة، فقد أُعدّ له ٨٠ محضراً منذ صدور حكم الإدانة على الضابط الذي عذّبه وصوّره، وفي كل مرة كان يخرج عماد بريئاً.
لكن عملية الاصطياد نجحت هذه المرة، بعد معركة اشتعلت بسبب الشقيق الأصغر صدام أو معه. واشتركت فيها عناصر من عائلة عماد، والشرطة اشتمّت فيها رائحة الضحية، وجعلت منها الطريق لكي يسدّد عماد فاتورة عودته إلى الحياة، والمطالبة بالحق.
رواية عبده تذكّر باللحظات الأولى في القضية التي ارتبطت باسم صاحبها «عماد الكبير». ساعتها كان عماد خائفاً من قول الحقيقة. قال في حضرة النيابة إنه خائف من الانتقام.
ووصلته الرسالة: «المحامي العام يطمئنك. ويقول لك إنّ أعلى جهات قضائية ستعيد إليك حقك إن كان لك حق».
يومها لم يعرف عماد معنى «المحامي العام». وشرح له ناصر ووكلاء النيابة رفعة المنصب وخطورته. فشعر بالأمان، وبأن هناك من يناصره في الحصول على حقه، بعدما كان يرى أنّ «كل اللي تحت ربنا ضدي».
انتصر عماد الكبير وأصبح رمزاً لعودة الضحايا إلى الحياة، ليحاصروا بحكاياتهم الجلّادين الذين يتمتعون بالحرية، وبصمت ضحاياهم.
لم ينتصر عماد وحده. انتصر المجتمع المدني: المدوّنون والصحافة الشعبية، والصحافة المكتوبة التي تحاول الخروج من أسر الحكاية العمومية للسلطة، والقضاء، والضحايا الذين يكملون حياتهم في عتمة الظلم.
هؤلاء شعروا بالانتصار مع الحكم لمصلحة عماد ضد «إسلام بيه»، وهو اسم الضابط الذي عذّب عماد، والذي لا يزال عبده يستخدمه في وصف هذا الضابط.
يحكي لي عبر التلفون: من يومها (يقصد يوم الحكم) وهم يريدون عماد… ليه؟ إحنا عملنالهم إيه؟
أرسلت صحف الحكومة مندوبيها ليحصلوا من أهالي بولاق على شهادات عن البلطجي عماد الكبير. الأهالي لم يذكروا إلا محاسن عماد وعائلته.
لم تنشر صحف الحكومة شهادات الأهالي. واكتفت بنشر النص المكتوب برغبة الانتقام من عماد الكبير. الغريب أن الصحف المستقلة نشرت النص نفسه، وشاركت في صنع رأي عام يرى أن عماد بلطجي.
وهذه هي العودة إلى المربع الصفر. لماذا استسلمت الصحف المستقلة للحكاية الواحدة للسلطة؟ ألم تخرج هذه الصحافة لتكسر هيمنة حكاية السلطة؟ ولماذا لم يتحرك المجتمع المدني دفاعاً عن مكاسب تحقّقت في طريق خلق توازن بين السلطة والمجتمع؟
ربما ليست عودة إلى المربع الصفر، إنها صيحة ديناصور لا يزال يشعر بقوته رغم أنه أصبح خارج الزمن. ديناصور يريد عودة قبول التعذيب وسيلةَ تأديب للخارجين على القانون.
اللعبة واضحة إلى حد كبير، تنظيم التعذيب يضع حركة مقاومة التعذيب في «خانة اليك»، إذا دافعت عن عماد، فإنّ هذا يعني أنك تدافع عن البلطجة.
وإذا كان خالد سعيد قد مات، فإن عماد هو الرمز الحي لمقاومة التعذيب، ولا بد من التنكيل به، واستعادة الأرض التي كسبها المجتمع من التنظيم السري للتعذيب، استعادة بجبروت وقسوة مفرطة، وفي غفلة من الجميع.
الحكاية أكبر من عماد الكبير نفسه، إنها على ما يبدو رسالة استعراضية يريد من يرسلها أن يقول: الضحية ستظل ضحية لن نسمع صوتها. والجلّاد لن يردعه القانون ولا الحقوق.
رسالة خطيرة. التنظيم شعر بالهزيمة عندما خرج عماد الكبير. يبحث عن طريقة ينتقم بها من عماد ومن المجتمع الذي وقف خلف الضحية لتستعيد حقها من الجلاد. المحاولات هدفها ليس إلغاء الحكم بل انتقام صرف. ونشر اليأس في المجتمع كأنهم يعملون تحت شعار: سنعذّبكم إلى الأبد.