رغم أن حجم الدين المترتب على الأسر انخفض بسبب مفاعيل الانهيار وتآكل قيمة الليرة، إلا أن العبء الناتج ممّا تبقّى من الدين أصبح أكبر. قد يكون هذا التناقض مربكاً، لكنه يُعبّر عن واقع أن الانهيار الذي حصل تُرك على طبيعته، فانهار كل شيء بشكل متزامن. حجم الدين انخفض فعلاً، لكن انهارت معه قدرة اللبنانيين على تحمّل هذا الدين.لا يمكن قياس انعكاس أثر الدين على المجتمع أو على الاقتصاد من خلال معيار حجم الدين الاسمي فحسب. فهذه المقاربة تلغي وقائع متصلة بمسار الاقتصاد وما يحصل في المجتمع بشكل عام. فلو أخذنا، على سبيل المثال، حجم الدين مقارنة بمعدّل المداخيل في الاقتصاد، لتبيّن أن هذا المعيار يؤدّي إلى نتائج مختلفة تتضمن تأثير الدين على الأسر. قبل الأزمة، تُظهر الأرقام أنه لو جرى توزيع الدين بشكل متساوٍ على أفراد المجتمع، لكانت حصّة الفرد من الدين الكلّي (الذي يتضمّن الدين العام والخاص)، يمكن تسديدها نظرياً خلال سنة ونصف السنة تقريباً، إلا أنه اعتباراً من عام 2023 بات الفرد يحتاج إلى ثلاث سنوات لتسديدها.
المصدر: البنك الدولي، مصرف لبنان، الأخبار | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

تأتي هذه النتيجة بسبب الحياد السلبي الذي مارسته السلطة في التعامل مع الأزمة، أي إنها اتخذت خيار الفوضى وتركت الأزمة بلا معالجات جذرية تضمن حماية الأسر أو حتى السيطرة على الانهيار. باختصار، السلطة قررت أن عامل التضخّم الذي تخلقه الفوضى في التعامل مع الأزمة، إضافة إلى عامل الوقت، هما أدوات التعامل مع الأزمة من أجل التصحيح أو الوصول إلى «الوضع الطبيعي الجديد».
بالأرقام، يظهر أن حجم الدين الكلّي انخفض من نحو 134 مليار دولار في عام 2017 إلى نحو 35 مليار دولار في عام 2023، أي انخفض بنسبة 73%. وهذا الرقم لوحده قد يكون مضللاً لأنه يترك انطباعاً بأن مسار التعافي أصبح في مراحل متقدّمة، إلا أن الحقيقة مختلفة جذرياً. فبالتزامن مع انخفاض حجم الدين، انخفضت قيمة الليرة اللبنانية بأكثر من 98% خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أدّى إلى خفض قيمة الأجور الحقيقية بنسبة تفوق 85% من قيمتها.
عملياً، يعود الانخفاض الأساسي في حجم الدين الكلّي إلى انخفاض حجم الدين العام بالليرة، إذ لم يبق من الدين العام، فعلياً، إلا القسم المتعلق بالعملات الأجنبية أي سندات اليوروبوندز التي توقّف لبنان عن دفعها أيضاً. في المجمل، وبحسب أرقام البنك الدولي الصادرة أخيراً، انخفض الدين العام من 79.5 مليار دولار في عام 2017 إلى 32.9 مليار دولار في عام 2023، أي بما قيمته 42 مليار دولار، لكن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت من 150% إلى 183.5%.
في المقابل، انخفضت الديون الخاصة بشكل كبير أيضاً. وهو ما يُعزى إلى عاملين اثنين:
- الأوّل هو أن سداد الديون، بالعملة المحليّة وبالعملات الأجنبية، أصبح رخيصاً. إذ أتيح للمقترضين سداد ديونهم على سعر صرف 1500 ليرة مقابل الدولار، وهو ما دفع الكثير منهم إلى سداد ديونهم بشكل مبكر. وقد استخدم هؤلاء الشيكات المصرفية، وحساباتهم العالقة في المصارف وتعددية أسعار الصرف، لسداد قروضهم. فقد انخفض حجم القروض بالليرة من نحو 28 ألف مليار ليرة إلى نحو 14.6 ألف مليار ليرة بين عامَي 2017 و2023. أما القروض المقوّمة بالدولار فانخفضت من نحو 62 ألف مليار ليرة إلى نحو 14.5 ألف مليار ليرة. وهذه الفروقات هي قروض تمّ سدادها.
- العامل الثاني هو انخفاض قيمة العملة المحليّة. فمن ناحية، القروض بالليرة انخفض سعرها بنفس نسبة الانهيار بسعر الصرف. والقروض المقوّمة بالدولار انخفض سعرها بنفس هذه النسبة، إلا أنه بعد تغيير مصرف لبنان سعر الصرف إلى 15 ألف ليرة للدولار الواحد، أُعيد تقييمها على ذلك الأساس. فحُوّلت إلى ليرة على أساس سعر صرف 15 ألفاً للدولار، وأُعيد تحويلها إلى دولار على أساس سعر صرف المتوسّط الذي حدّده البنك الدولي.
في وقت موازٍ، كانت المداخيل في لبنان تتجّه نزولاً في انخفاض كبير، وذلك بسبب فقدان العملة المحليّة القدرة الشرائية بعد انهيار نظام تثبيت العملة الذي اتُّبع منذ منتصف التسعينيات. عملياً، الانخفاض الذي أصاب الأجور كان أقوى من الانخفاض الذي شهده الدين اللبناني الإجمالي، وقد أصبح عبء الدين على الأسر اللبنانية أكبر من قبل.