قد يصحّ عنوان إعادة هيكلة الدين العام لو لم تعلن الحكومة السابقة إفلاس الدولة اللبنانية. فمع إعلان الإفلاس لا يمكن الحديث عن إعادة هيكلة، بل عن شيء آخر. في العادة، إن الدول التي ترزح تحت أعباء مديونية عالية، مضافاً إليها طبقة حاكمة فاسدة وتراكم للدين العام، كل ذلك من دون أن يكون لدى هذه الدول اقتصاد داخلي يمكّنها من تحمل كل هذا المسار ونتائجه، فعنئذ تعلن هذه الدول إفلاسها ويتدخل الصندوق ليفرض شروطه ويمدّها بالرساميل حتى تخرج من أزمتها، كما يعتقد الصندوق.هناك طريقتان في الذهاب إلى صندوق النقد: أن تلجأ إلى الصندوق مع برنامج إصلاحي، أو من دون أن تتسلّح بأي برنامج بل تناقشه مع الصندوق قبل مباشرة هذا الأخير بفرض شروطه. الشروط باختصار هي على النحو الآتي: السعي إلى تصحيح الأرقام، أكثر من السعي لتعزيز نوعية حياة الإنسان والمجتمع. على حساب هذه النوعية تُفرض تلك الشروط.
هنا أودّ الإشارة إلى أن الحكومة السابقة أخطأت كثيراً عندما أعلنت من دون أي مبرر إفلاس الدولة اللبنانية، لأنه كان بإمكانها أن تدفع مستحقات 2020 بنحو 60% أو 65% من قيمتها الإصدارية نظراً إلى أسعار التداول المتدنية لسندات اليوروبوندز. بدلاً من تسديد 2.5 مليار دولار، كان يمكنها أن تدفع 1.8 مليار ثمناً لها. ثم ترتضي مع البنك المركزي على إنفاق ما لا يقل عن 10 مليارات دولار في عملية سُميت على خطأ، دعماً.
هذه مصادرة فاقعة لأموال الناس واستعمالها بطريقة شابتها الكثير من العيوب. الناس أعلم من هذه الدولة العاجزة كيف يتصرّفون بأموالهم، ولا يحتاجون إلى ولي كهذا على أمورهم المالية. لكن نيّة السرقة وإكمال عملية السطو والنهب على مدّخراتنا، ولا أستبعد أن تكون هناك مؤامرة إسرائيلية في هذا الموضوع، لأنه بعد عجز إسرائيل عن تقسيم لبنان وعن إسقاطه بواسطة نهر البارد ومن خلال داعش أيضاً، نجحت في إسقاطه مالياً. إن استكمال عملية النهب تمّت بواسطة هذا الدعم المفترض، لدرجة أنه لم يتبقَّ في المصرف المركزي أكثر من 5 مليارات دولار على الأكثر.
هناك طريقتان في الذهاب إلى صندوق النقد: أن تلجأ إلى الصندوق مع برنامج إصلاحي، أو من دون أن تتسلّح بأي برنامج بل تناقشه مع الصندوق قبل مباشرة هذا الأخير بفرض شروطه


أقول إنه ممنوع أن نرفع هذا الدعم قبل أن نملأ جيوب اللبنانيين بدولاراتهم وإلا سترتفع الكتلة النقدية بالليرة وارتفاع الأسعار، وهذا يعني فقدان جزء من القدرة الشرائية والأجر الفردي وينعكس سلباً على سعر صرف الليرة في السوق الواقعية.
إذاً، هذه كلها إجراءات تندرج في إطار إعادة الهيكلة. فإذا كنّا سنذهب إلى صندوق النقد الدولي، مسلّمين رقابنا كلياً، أو متسلّحين بخطة تناسب أوضاعنا العامة للأسر والأجراء والشركات ومدى حاجة 81% من فقراء لبنان إلى تقديمات اجتماعية من قبل وزارة الصحة وغيرها فإن صندوق النقد سيطالب بموازنة متوازنة تتضمن: تشحيل القطاع العام، وقف الصحة، الشؤون الاجتماعية. سيطالب الصندوق بتحرير سعر الصرف، وتحرير التجارة الخارجية... تسليم رقابنا بهذا الشكل يُعدّ خطراً كبيراً على ما تبقّى لدينا من قدرة احتمال.
الحكومة التي تألّفت، وبدلاً من أن تكون حكومة الوظيفة، أتت حكومة موظفين لدى الطبقة السياسية. هؤلاء أجراء عند الأحزاب السياسية. وبما أن هذه الأخيرة أفلست البلد وهي مفلسة فكرياً وأخلاقياً ووطنياً وفي كل شيء، أستبعد أن تستطيع هذه الحكومة أن تضع مشروعها. لذا، لست متفائلاً من التعامل مع صندوق النقد ومن سلوكياته تجاهنا في ظل حكومة أجراء وقدرتها على تقديم برنامج إصلاحي يمكن المطالبة على أساسه صندوق النقد بإعادة هيكلة القطاع المصرفي. وذلك بعدما تناقش محتوى برنامج الحكومة للتفاوض على إعفاء لبنان من جزء أساسي من دينه الخارجي. صحيح أن دين لبنان تراجع بالليرة والدولار إلى أكثر من 120 مليار دولار. ديننا باللبناني تهاوى من 60 مليار دولار إلى 10 مليارات دولار، لكنّ ديننا الخارجي بالعملة الصعبة، وهو تقريباً يلامس الـ50 مليار دولار.
في المحصّلة تراجع ديننا العام بنسبة 50%. المستثمرون الخارجيون، لديهم محفظة استثمارات في سندات دين وعادة يذهبون إلى الدول التي تدفع فوائد سخية على البوندات، وهي بالعلم المالي تصبح «جانك» (Junk) كلما ارتفعت الفائدة عليها، وهم يضعون نصب أعينهم الربح والخسارة. هذا يعني أن الـ«Debt Relief» الذي أجري مع الكثير من الدول النامية الغارقة في الديون، أعفاها من الدين الخارجي. وفي لبنان الهدف من الإصلاحات أن يُخفَّض الدين إلى 18 مليار دولار، لكن لم يدخل بعد أيّ دولار، معناه لا علاقة بين الأمرين. في العادة الدول التي تفلس شعوبها تفقد ودائعها في المصارف... في لبنان الأموال كلّها كان بعضها مرتبطاً ببعض من الدولة إلى مصرف لبنان والمصارف. مصرف لبنان نشّف السيولة من المصارف، بينما تعريف المصرف هو أنها شركة سائلة يمكنها أن تلبي الطلب على السيولة. ليست لدينا مشكلة مع الدين الداخلي، بل مع الدين الخارجي.
لماذا سقطنا في امتحان الدين الخارجي؟ كلّ السياسات التي انتُهجت من عام 1993 إلى عام 2019، كلّ السياسات لم تبنِ اقتصاداً أبداً. مع الـ185 مليار دولار كودائع إجمالية في المصارف (منها 120 ملياراً بالعملات الأجنبية) كنا نقدر أن نولّد ناتجاً محلياً بقيمة لا تقل عن 250 ملياراً ويصدر بين 25 و30 مليار دولار سنوياً تكفينا. هذه مصادر شديدة التأثير بعوامل خارجية، وبالتالي ليس هناك سوى الصادرات لرفد البلد بالدولارات. عندما يكون لدينا اقتصاد قوي وقادر، نكون قد ضمنّا تغطية بين 6 أشهر و8 أشهر من حاجاتنا الاستيرادية.
الأنكى من كلّ ذلك، أن من سرقنا وأذلّنا وأفقرنا لا يزال يحكمنا. هذا أمر خارج المنطق.
لا بدّ من مساءلة ومحاكمة ومصادرة الأملاك والأموال في الداخل والخارج وتسييلها وتوزيعها على المودعين. هذا هو المدخل. خسارتنا كمودعين هي بقيمة 120 مليار دولار. من سيعوّض علينا؟ صندوق النقد؟ لن يعوّض علينا أحد!

* هذا النصّ تلاه الدكتور إيلي يشوعي في ندوة عقدها المنتدى الاقتصادي والاجتماعي
** أستاذ جامعي