لوهلة يشعر المرء كأنّ روح النضال قد قُتلت لدى اللبنانيين، وخصوصاً لدى من يخشون الاقتراب من مستنقع المحاصصة الذي حوّل الدولة الى أطباق جبنة معروضة للتقاسم والنهش، أو أقله أنهكتها تعباً. وصار هذا الانطباع واقعاً بعدما بُحّت أصوات المطالبين بقطع أوصال الشبكة المافيوية التي تمتص عروق الإدارة اللبنانية ومرافقها، فلا تترك للبنانيين الا عظامها، وتتيح تكتّل الأضداد في خندق المصالح المشتركة لتحبط المتمردين على هذا الواقع المهترئ.
كيف لا ومشهد النفايات العفنة يجتاح الشوارع ويسقط عنا توصيف الدولة. فحتى في الأزمنة السابقة لنشوء الدول كانت القبائل والمجتمعات البدائية المتناحرة تعرف كيف تحمي نفسها من نفاياتها ووسخها، بينما نحن نرفع أيدينا استسلاماً لمشيئة أكياس الزبالة التي باتت أقوى من إرادة النظافة. وها هي عهود تتعاقب، وحكومات تذهب وتجيء وتركيبات سلطوية تتناوب على الكراسي ووزراء يأتون ويرحلون فيما «سوكلين» باقية. ليس لأنّ الجميع أضعف من أن يواجهها، وليس لأنّ المواجهة مع شركة أو ادارة خاصة بموازنة مليونية، بل لأنّها مواجهة لمنظومة متكاملة من المصالح تختلف على كل شيء الا على قالب الجبنة، وتتمايز في كل شيء الّا في تصديها لمن يحاول الاقتراب منها لانتزاع الدجاجة التي تبيض ذهباً يكفي الجميع.
عملياً، ليست شركة «سوكلين» أو مجموعة «أفيردا» هي التي رمت أكياس النفايات تحت أنوف اللبنانيين، وليست هي من حوّل شوارعنا الى مكبات عشوائية، وانما ثمة طبقة سياسية فاسدة تتحمل كل المسؤولية، وهي تتقاسم «قالب النفايات» مذ أن اكتشفت «بئرها النفطية» وتأكد لها أنّ هذه البئر لن تجف طالما أنّ منازل اللبنانيين مصانع دائمة للنفايات. ولهذا تقاعست الحكومات المتعاقبة عن سابق اصرار عن وضع خطة جدية وتجاهلت عن قصد الخطة التي وضعت عام 2006، فيما تكاسل مجلس الانماء والاعمار طوال هذه السنوات عن وضع دفتر شروط يكون ألفباء الخطة، فصارت المعالجات الطارئة حلولاً نهائية تدميرية.
انسوا أمر النفايات، واسألوا عن النفط. على حدودنا، إسرائيل تستعجل استقطاب كبريات الشركات العالمية لبدء التنقيب عن الغاز، بينما مسؤولونا يتلهون بصغائر المعارك ليهملوا الكنز المدفون في باطن البحر. طبعاً، لا يحصل هذا الأمر من باب المنافسة على تقديم أفضل ما لديهم، ولكن كي يطبقوا أفواههم على قالب الحلوى، حتى قبل وضعه على الطاولة. في هذا المشهد يبدو المواطن الحلقة الأضعف، في ظل افتقاده القدرة على المبادرة والتحمل والمواجهة والمحاسبة في دولة ينهشها أخطبوط متعدد الألوان لا يجمع بين مكوناته الّا الجشع للمال والسلطة.