أناديها «ضاحيتي». حصل هذا مذ أيقنت مدى الظلم الذي تتلقاه تلك البقعة الجغرافية الواقعة جنوبي العاصمة بيروت، التي يسميها الناس «الضاحية الجنوبية». أذكر جيداً الصورة النمطية التي زرعها الإعلام في مخيلة اللبنانيين عن «ضاحيتي»، وأحقد عليه.
في عام 2007 سألني صديق يقطن في كسروان، لم يخرج منها أبداً: «بجيب معي هويتي بس اجي عالضاحية»؟ أربكني سؤاله. كنتُ قد رتبت له زيارة إلى الضاحية، وإلى بيتي تحديداً، ليعيش معنا بعضاً من أجواء «الحب الرمضاني». «ألستَ لبنانياً؟ ومعتادا على حمل هويتك؟» أجبته. فقال: «بس نفوت عالضاحية بكرا، مش رح ياخدوا هويتي؟».
إذاً، فهو يعتقد ان الضاحية مكان مغلق، محاط بأسوار عالية، حيث يدَقق بهويات «الغرباء». معذورٌ. إنه، وعائلته ومواطنيه، يتابعون وسائل الإعلام اللبنانية. لطالما طبعت تلك الأبواق، التي تُسيِّر الرأي العام، في أذهاننا، ما تريد. لكن ليست تلك الضاحية التي نريد.
كنتُ في صغري أخجل من سؤال: «وين ساكنة؟». في الضاحية. ماذا سيقولون إن علموا؟ ماذا ستكون ردة فعلهم لو عرفوا أنني أقطن في المنطقة «المغلقة»؟
طفولتي كانت خاضعة لذبذبات الإعلام. أرى هذا جيداً. ذلك هو الحال مع مئات الآلاف من اللبنانيين الذين «لا يعرفون»، بل «يسمعون».
داهمتني الأيام حتى جاءت حرب تموز. شكلت مفصلاً أخرجني من قوقعتي. بعد ثلاثة وثلاثين يوماً من النزوح، عدنا. وكان العودُ أحمد. لم أرَ شيئاً. الأزقة، المحال، البيوت.. كل ما ركن في ذاكرتي عن الضاحية مُحيَ تماماً. بكيتُ كثيراً. رفضتُ أن أودعها. لكنها «عادت أجمل مما كانت». وكان هنا بيت القصيد. شعرتُ بحب مفاجئ ينضح في عروقي! هذه «ضاحيتي». هذه الأرض الحزينة التي تستحق الفرح. هنا الشهداء، وهنا الفخر. أصبحت إجابتي على السؤال المربك، سهلة ومطمئنة: «أنا ساكنة بالضاحية». أنا أسكن المنطقة المقاومة. فليسمع العالم بأسره.
ما رأيتُ بالضاحية إلا جميلاً. ما تذمرتُ منها قط. أحب الازدحام. أحب «أوتوستراد السيد هادي»، أحب الحواجز الأمنية. أحب مجمع سيد الشهداء، جامع الحسنين، وسوق معوض. أحب الحجاب والسفور. أسواقها الرخيصة والباهظة. أحب عاشوراءها وميلادها. أحب تناقضها الملون. أحب كبرياء أهلها الذين يحسبون أنفسهم «أبطال الكوكب». هم كذلك. هم تحملوا إهمال دولتهم، وجور عدوهم. وما زالوا هناك: في «ضاحيتي».