لطالما كانت المرأة جزءاً مهماً من التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني. وقد تكون الطريقة التي أرّخت فيها الفلسطينيات لسيَر المناضلين ما قبل النكبة، هي الأغرب والأكثر إبداعاً؛ فقد تحوّل رثاؤهن إلى شهداء قضوا ما قبل عام 1918، إلى أغانٍ تراثيّة وشعبيّة تناقلتها ألسن أبناء المخيمات والداخل المحتل.
أغنية «مشعل» التراثيّة، هي رثاء النسوة لشاب فلسطيني «فراري» (هارب)، ألقي القبض عليه من قبل «القانون التركي» (الشرطة العثمانية)، واقتيد إلى الخدمة الإجبارية في جيش السلطان عبد الحميد الثاني في خلال الحرب العالمية الأولى.
وثّقت النسوة الفلسطينيات جمال مشعل وشجاعته في رثائهن له، ونقلن لنا كيف أمضى وقته هارباً في كهوف الجليل الأعلى. كذلك صوّرن بكلماتهن بالتفصيل، لحظة إلقاء الشرطة العثمانية القبض عليه بالقرب من عين ماء، وكيف حاول الشاب الفلسطيني رشوة الشرطي بـ«مجيدية» (عملة) ذهب، بعدما طلب الأخير منه إبراز «وثيقته».
روت نساء الجليل الحادثة بتفاصيلها عبر غنائهن في القرى التي زرنها:
«عالأوف مشعل أوف مشعلاني، ماني تبليته هو اللي تبلاني/ أنا شفت واحد واقف جنب البركي، حكيته عربي جاوبني بالتركي/ النسوان تنوح والأطفال تبكي، مع مين نحكي تركي أو ألماني/ أنا شفت القانون جاي من بعيد، جيت أهرب ما طلع بإيدي/ قال لي الوثيقة ناولته مجيدي، لطش المجيدي وقال لي انت فراري».
بعد نكبة 1948 أدت المرأة الفلسطينية دوراً أساسياً في العمل الفدائي

مع انهيار السلطنة العثمانية واحتلال البريطانيين لفلسطين وازدياد الهجرة اليهودية إليها، تبدّل دور المرأة من الأم والأخت والحبيبة إلى المناضلة والفدائية التي كانت مهمتها الدعم والقتال ونقل الرسائل إلى الثوار الأسرى في سجون الاحتلال البريطاني. واليوم، من أشهر الأغاني التراثية الفلسطينية هي «يا طالعين الجبل». في هذه الأغنية غير المفهومة، أكثرت النسوة من استخدام حرف «اللام» في كلماتها، وذلك بهدف تشفيرها وجعلها غير مفهومة للكثيرين.
خلال زيارتهن لأحد سجون الاحتلال البريطاني الواقع على جبل، غنت الزائرات «يا طالعين عين للل الجبل يا موللل الموقدين النار/ بين لللل يامان يامان عين للل هنا يا روح/ إلا غزال لللذي جوين للللكم محبوس». أخبرت النسوة «المحبوس» (الأسرى) أن «الغزال» (الفدائيين) «جوين» آتون، «بين للل» (الليل) لتحريرهم وأن إشارة بدء العملية هي عندما يرون النار موقدة. فهم الأسرى الرسالة، وانتظروا تحريرهم الذي لم يطل كثيراً.
بعد نكبة 1948، وانطلاق العمل الثوري الفلسطيني في بداية ستينيات القرن الماضي، أدت المرأة الفلسطينية دوراً أساسياً في المشاركة والتحريض على العمل الفدائي. كانت النسوة في المخيمات يجبرن أطفالهن المتقاعسين على المشاركة في دورات «الأشبال» تحت تهديد اعتبارهم أطفالاً لا رجالاً.
بعد خروج الثورة الفلسطينية من لبنان عام 1982، ورحيل أو استشهاد معظم الفدائيين، تولت النساء مهمة إعادة بناء المخيمات، خصوصاً مخيم عين الحلوة في صيدا الذي دمر العدو الجزء الأكبر منه. حتى يومنا هذا، لا يزال الرجال يمازحون زوار المخيم. يقولون إن ضيق أزقته وضعف أساسات البيوت فيه سببهما بناء النساء له. ويمكن زوار عين الحلوة سماع النسوة الفلسطينيّات يفاخرن بمشاركتهن في بناء المخيم، وكيف كنّ يحملن الأسمنت على أكتافهن لإعمار البيوت المهدمة.
هذا النفس لا يزال موجوداً حتى الآن ونراه يومياً في الضفة المحتلة وغزة. كيف يمكننا أن ننسى ابتسامة والدة الشهيد مهند الحلبي خلال تشييع ابنها، أو صوتها المتهدّج وهي ترثيه. معاناة يوميّة تلك التي تعيشها النسوة الفلسطينيّات. معاناة شبه دائمة لن تنتهي إلا إلى حين زوال الاحتلال. وحتى لو وقفت بعض الأمهات الفلسطينيّات بصلابة أمام العدو، لكنهنّ في النهاية أمهات يبكين على أطفالهن وأبنائهن في السر.
بعض هؤلاء النسوة حولتهن المعاناة إلى أيقونات، مثل السيدة محفوظة اشتيتة أو أم غالب كما تعرف في بلدتها «قرية سالم» شمال نابلس. هي صاحبة اللقطة الشهيرة للسيدة العجوز بالكنزة الزهرية التي رمت بنفسها على شجرة الزيتون واحتضنتها وهي تبكي، مانعة بذلك جرافات العدو من اقتلاعها. ولأن للمرأة الفلسطينية تأثيراً مهماً في المجتمع، وصف الشاعر محمود درويش فلسطين بـ«سيدة الأرض».