في ليلة 12 شباط (فبراير) قبل 40 عاماً، نهض سامي الدروبي (1921- 1976) من سريره متجاهلاً حدّة مرضه وخطورته. أزاح أنبوبة الأوكسجين جانباً. سمعت ابنته ليلى حركة في المنزل، فهرعت إلى غرفة والدها، ووجدته يحمل معجماً. وحين احتجت على ما كان يفعله بنفسه، أجابها بهدوء: «إنّ كلمة تقلقني، وأظن إنني ترجمتها خطأ، سأراجعها وأعود إلى النوم، اذهبي واستريحي». حالما غادرت الغرفة، عاد إلى مكتبه وجلس يقلّب المعجم، ثم أحنى رأسه وهوى في الليلة ذاتها. كان على وشك الانتهاء من ترجمة «الحرب والسلام» لتولستوي. لكن القدر لم يمهله، فأكملت ابنته الصفحات الأربعين المتبقية من الكتاب الضخم. لكن المأثرة الكبرى لهذا المترجم السوري الفذّ، سنجدها في تعريبه الأعمال الكاملة لدوستويفسكي في 18 مجلداً (نحو11 ألف صفحة) غير عابئ بقلبه الناحل الذي باغته بثلاثة إنذارات قبل أن يصرعه تماماً. هكذا أهدى لغة الضاد تحفة أدبية نفيسة، رغم أنه ترجمها عن الفرنسية لا عن اللغة الأم. إثر صدور الأعمال الكاملة، سوف يسأل طه حسين المستشرق الروسي فلاديمير كراستوفسكي رأيه في ترجمة الدروبي، وسيجيبه «إن سامي الدروبي لا يقرأ ويترجم فحسب، بل يعايش المؤلف فعلاً، لو أنّ دوستويفسكي كتب بالعربية، لما كتب أجمل من ذلك». زائرو متحف دوستويفسكي في موسكو سيجدون نسخة نادرة من هذه الترجمة، وهي النسخة العربية الوحيدة في المتحف.
عبارة «الفرنسية منفاي» التي قالها محمد ديب ذات مرّة، أصابت مترجمنا بمقتل. قرّر أن ينقل ثلاثية الروائي الجزائري «الدار الكبيرة»، «النول»، «الحريق» إلى مياهها الأصلية، كنوع من ردّ الدين للغة الضاد. نحن إذاً، إزاء شخصية متفرّدة، ومغامرة، ذلك أن الترجمة في معجم سامي الدروبي ليست مهنة أو مجرد نقل عن لغة أخرى، بل كتابة جديدة لها، وفرصة لإثراء المكتبة العربية بالتراث الإنساني.
نقل ثلاثية الروائي الجزائري محمد ديب إلى لغة الضاد
وعلى هذا الأساس، بدأ هذا المفكر الذي درس الفلسفة في القاهرة وباريس، مشروعه الضخم في ترجمة الأعمال العالمية التي تعد حجر الزاوية في عمارة الفكر العالمي، فالتفت أولاً إلى علم النفس والفلسفة ليترجم «علم النفس التجريبي» لروبرت ودوث، و«معذبو الأرض» لفرانز فانون، و«الأعمال الكاملة» لهنري برغسون، و«مدخل إلى علم السياسة» لموريس دوفرجيه، و"مسائل في فلسفة الفن المعاصر" لجان غوايو.
ولأن الترجمة ذائقة جمالية في المقام الأول، التفت لاحقاً إلى أعمال الكتاب الروس، فترجم «ابنة الضابط» لبوشكين، و«بطل من زماننا» لليرمانتوف، و«مياه الربيع» لتورغنيف، ثم رواية «جسر على نهر درينا» لليوغوسلافي إيفو اندريتش. لكن الانعطافة الحقيقية في مشروع هذا المثقف الموسوعي، كانت في تفرّغه لترجمة الأعمال الكاملة لدوستويفسكي، فهو أفنى عشرين عاماً من عمره في بحر دوستويفسكي المتلاطم والمعقّد والصعب، وظهرت هذه التحفة أولاً، في القاهرة عام 1966، قبل أن تعيد طباعتها "دار ابن رشد" في بيروت في طبعةٍ أنيقة. وكما هو متوقّع فقد أحدثت هذه الترجمة البديعة، هزّة في الوسط الثقافي العربي، إلى درجة أن علق طه حسين بقوله: "هذا جهد مؤسسة متكاملة".
ويشير سامي الدروبي في أحد حواراته إلى أن علاقته بإبداع دوستويفسكي بدأت عندما كان في الثامنة عشرة: "شعرت أن بيني وبينه أنساباً روحية، ووجدت نفسي فيه، وصرت أتحرك في عالمه كتحركي في بيتي، وأعرف شخوصه معرفة أصدقاء طالت صحبتي معهم، حتى لأكاد أحاورهم همساً في بعض الأحيان". ويستشهد بقول لنيتشه "دوستويفسكي هو الوحيد الذي علّمني شيئاً عن النفس الإنسانية".
وتروي رفيقة دربه إحسان بيات الدروبي، أنها كانت في رفقة زوجها في زيارة إلى موسكو. وخلال جولة في شوارع المدينة، أشار سامي إلى جسر مرّا بقربه، وقال: "هذا الجسر ذكره دوستويفسكي في قصة «الليالي البيضاء»». وفي شارع آخر، وقف يتأمل بيتاً ثم علّق: "أظن أن رواية "الجريمة والعقاب" حدثت في هذا المنزل، وفي هذا الركن اجتمعت هيلين إلى الأمير".
وحين كان ينوي ترجمة رواية تولستوي «لحن كرويتزر»، قرر زيارة قرية تولستوي بغية التعرف عن كثب إلى البيئة التي كان يحياها صاحب "الحرب والسلام". وعلى رغم مرضه الطويل، وعمله الدبلوماسي، إذ كان سفيراً لسوريا في القاهرة، والرباط، ومدريد، إلا أنه لم يتوقف عن الترجمة حتى آخر شهيق من حياته. فور انتهائه من ترجمة أعمال دوستويفسكي، قرر أن يترجم الأعمال الكاملة لتولستوي، غير آبه بالمرض. وتقول زوجته إنه نهض من السرير واتجه إلى غرفة مكتبه، ثم تناول الجزء الأول من أعمال تولستوي "الطفولة والمراهقة والشباب" وجلس إلى المكتب ليباشر الترجمة. وحين اعترضت خوفاً على تدهور وضعه الصحي، أجابها بهدوء: "لا تتعبي نفسك، سأظل أعمل وأعمل، لأنني مؤمن بأن الحياة من دون عطاء لا قيمة لها والموت أشرف منها، وسأعمل حتى النسمة الأخيرة من حياتي".