للوهلة الأولى، كان يمكن النظر إلى زيارة الموفد الأميركي عاموس هوكشتين على أنها زيارة روتينية، ضمن سلسلة الزيارات التي قام بها للبنان منذ 7 تشرين الأول الفائت، وتدريجاً مع ارتفاع وتيرة التصعيد العسكري بين حزب الله وإسرائيل على الحدود الجنوبية. لكن ثمة مؤشرات مقلقة تجعل البعض ينظر إلى الزيارة على أنها تحمل أبعاداً مختلفة، إذ تأتي - كما يختصر متصلون بالإدارة الأميركية - في توقيت دقيق، لتكون «بمثابة العد العكسي للحرب أو السلم». فعلى كثرة الرسائل التي تصل إلى لبنان خشية انزلاق الوضع إلى حرب واسعة، وفي وقت ترفع إسرائيل وتيرة تهديداتها، تحمل زيارة الموفد الأميركي للبنان بعد إسرائيل رسائل أخرى، تتعدّى رغبة أميركية مستمرة منذ أشهر بتحييد لبنان.منذ الزيارة الأولى في تشرين الثاني، تبدّلت مهمة هوكشتين، وفق سير الأحداث والمفاوضات التي كانت دائرة بين واشنطن وإيران، وبين واشنطن والدول العربية حيال وقف النار ومستقبل غزة، وموقف إسرائيل من التهدئة واليوم التالي لوقف الحرب. المعطيات الميدانية تبدّلت منذ ذلك الوقت، ما كان مطروحاً من مبادرات حيال لبنان والكلام حول تفعيل القرار الدولي 1701 وتثبيت نقاط حدودية وطروحات لتراجع حزب الله أولاً إلى ثلاثين كيلومتراً ومن ثم سبعة كيلومترات، تبدّل كله بمرور الأشهر وسير المعارك وتبادل الضربات بين إسرائيل وحزب الله، وكذلك بفعل المفاوضات الدائرة في المنطقة، وأيضاً بفعل الموقف الإسرائيلي المتشدّد تجاه لبنان وحزب الله.
يتم التعامل لبنانياً مع زيارة هوكشتين على أنها حاملة لرسائل أميركية وإسرائيلية معاً. في حين أن ما تتبلّغه إسرائيل إنما تتبلّغه أولاً من دوائر رفيعة بدءاً بالرئيس جو بايدن ومن ثم وزير الخارجية أنطوني بلينكن. وهذه المرة لم تكن رسائل هوكشتين دبلوماسية بالمعنى المعتاد ، بل أقل دبلوماسية، إذ تحمل في طياتها موقفاً إسرائيلياً متشدّداً، بقدر ما تحمل رغبة أميركية في منع التصعيد، على أن يقابلها لبنان بالمثل. وكلامه كان بمثابة «رفع التحذير إلى مستوى أعلى مما كان عليه سابقاً. وتصريحاته العلنية كانت انعكاساً لما قاله خلال لقاءاته الرسمية من دون أن يخفي قلقه من أن هامش الوقت بدأ يضيق أمام لبنان».
من شأن إجماع الإسرائيليين على مشكلة الشمال أن يضاعف من رغبة نتنياهو في توسيع الحرب


وخشية الموفد الأميركي تتخطّى حرص واشنطن على منع الانزلاق نحو الحرب الواسعة، لتعطي إطاراً أشمل لما يحصل على الجبهة الإسرائيلية، حيث هناك تحضير لليوم التالي لغزة، أو بالأحرى كلام حول انتهاء هذه المرحلة، والتصويب نحو لبنان. ما يُنقل أميركياً، وقبله أوروبياً، أن النظرة إلى جنوب لبنان أصبحت أكثر حدّة من الأشهر السابقة، والتهديدات التي نُقلت سابقاً بدأت تتوسّع داخل الأطر الإسرائيلية التي تريد الذهاب إلى تصعيد أقوى في شكل مفتوح وموحّد أكثر من التعامل مع الحكومة حيال غزة والأسرى الإسرائيليين. ومن شأن توحّد الإسرائيليين حول شمال إسرائيل أن يضاعف من رغبة الحكومة الإسرائيلية في الذهاب إلى توسيع الحرب. من هنا كانت الأسئلة الأميركية حول ما يمكن للبنان أن يفعله. والسؤال الأبعد هل يريد حزب الله من معركة الإسناد إبقاءها مشتعلة ولو توقّفت حرب غزة؟ ولا سيما أن الموفد الأميركي لم يطرح هذه المرة أي تفاصيل تقنية أو مبادرات وطروحات تتعلق بترتيبات عملانية مؤجّلة إلى ما بعد انكشاف الرؤية حول الحرب أو السلم، علماً أن زيارته ترافقت مع معطيات أخرى تتعلق بما تريده إيران.
منذ أن بدأ هوكشتين مهمته قبل أشهر كانت الفرصة سانحة للكلام حول ترتيبات جنوبية، تحت سقف عدم رغبة إيران وحزب الله بتوسيع رقعة الحرب وحصر جبهة الجنوب بإطار محدد لإسناد غزة. لكن هذا الإطار بدأ يتبدل، مع المستجدات الإيرانية وانشغال إيران بالانتخابات الرئاسية، وتشدّد أوروبا في شأن الاتفاق النووي، والمفاوضات في شأن غزة عبر دول عربية، لأن الأسئلة تدور حول ما تريده إيران من جبهة الجنوب، وهل تستمر في اعتبارها جبهة إسناد أو تنقلها إلى جبهة مستقلة، مع كل ما قد يترافق ذلك من إطار لتبرير هذا الانتقال من مكان إلى آخر، ونوعية الصراع العسكري الذي تبدّل، ومحاولة القفز فوق ما تريده إيران من حرب غزة، يمكن أن يضاعف من المؤشرات المقلقة. وقد يكون ما تريده إيران مؤجّلاً أيضاً، لكن إسرائيل تقوم بكل ما يلزم من خطوات لتضييق هامش لبنان في عدم الأخذ بجدية التحذيرات الإسرائيلية، قبل الانتقال إلى المرحلة الأصعب من حرب واسعة. وهذا يضغط على الجميع، ولا سيما واشنطن وطهران كونهما الطرفين المعنيين والأكثر إمساكاً بالوضع، من أجل حسم مستقبل الصراع بين إسرائيل وحزب الله. ولا يبدو أن الموفد الأميركي كان حاسماً بإمكان نجاح المساعي الأميركية في لجم هذا الانزلاق نحو الحرب، لأن الكرة في ملعب لبنان – حزب الله، كما في ملعب إسرائيل.