رئيس تكتل التغيير والإصلاح، مؤسس التيار الوطني الحر، قائد جيش سابق. كل هذه الألقاب تنتهي عند باب قصر بعبدا. لم يعد رئيس الجمهورية ميشال عون، حامل كل تلك الألقاب، وإن كان قد وصل بفضلها إلى كرسي الرئاسة. هو، اليوم، رئيس للجمهورية، اللقب الذي حارب وناضل من أجله. لكن رئيس الجمهورية، وفق الدستور، يحمل مواصفات أخرى، لا صلة لها بما حمله عون مرشحاً للرئاسة، ودور رئيس الجمهورية، بعد الطائف ووفق دستوره، يختلف كثيراً عن دوره ما قبل الطائف.ثمة إشكالية في مقاربة رئاسة عون، لأن خيطاً رفيعاً يفصل بين دوره كرئيس للجمهورية ودوره وموقعه في التيار الوطني الحر. فهو لم يعد ممثلاً فقط لهذه الفئة الجماهيرية التي توافدت إلى قصر بعبدا، بناءً على دعوة من التيار. وفي السياسة يمكن أن تُحتسب تلك الاحتفالية خطأً في أولى خطوات العهد، لأن مفعولها لم ينته مع عودة العونيين إلى منازلهم. إذ إن التظاهرة ذات الاتجاه الواحد، لا يمكن أن تستخدم في بعبدا كما كانت الحال في التسعينيات ولا في أيام الاعتراض العوني على حكومات الرئيس فؤاد السنيورة أو حتى الرئيس تمام سلام، ما يجعل مفيداً التريث في شدّ العهد الجديد نحو مطبات لا يحتاجها مع انطلاقته.
فرئاسة عون ستكون لها تبعات محلية وداخلية، كما أنه أصبح، بفعلها، تحت المجهر الإقليمي والدولي، أكثر من أي وقت مضى، حاله مثل حال الرئيس المكلف سعد الحريري. كلاهما أصبح في خندق واحد، لأنهما باتا أمام اختبار أخير، ولو أنهما في بداية طريقهما، لأن محكّ تأليف الحكومة قبل الوصول إلى قانون الانتخاب وإجراء الانتخابات النيابية والأشهر الأولى للعهد، هي التي تحكم على رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، إما بالنجاح وإما بفشل العهد وإحباط الآمال المعلقة عليه.
رئاسة عون محفوفة بالمخاطر وسط موزاييك إقليمي معقد، ومراقبة دولية لهذا الموقع ولشاغله بعد سنتين ونصف من الشغور، بكل الإرث الذي حمله عون، سواء في خصوماته محلياً وخارجياً، أو في التفاهمات التي صاغها مع حزب الله أو القوات اللبنانية أو الحريري نفسه. ولا يمكن رئيسَ الجمهورية اليوم المغامرة في سلسلة ملفات سبق أن خاض معارك فيها، لأن روما من فوق غير روما من تحت.
يمكن مراقبة أداء الحريري وإمكان تخليه عن "رفاقه" لمصلحة إنجاز حكومة سريعاً
وما كان العونيون ينتقدونه أو يطالبون به في تأليف الحكومات وتعطيل تأليفها، قد يكون رئيس الجمهورية الذي يحتاج إلى إقلاع ناجح لعهده، مضطراً إلى تدوير الزوايا من أجله، اقتصادياً ومالياً وحتى سياسياً. أمام عون أيضاً تحدٍّ حقيقي له علاقة بالشارع المسيحي، وهو هنا يقف بين حدَّي رئيس الجمهورية الذي هو فوق التفاهمات، ورئيس التكتل الذي صاغ التفاهمات مع القوات قبل أن يصبح رئيساً، إن كان بالنسبة إلى الحكومة أو بالنسبة إلى الانتخابات النيابية وقانون الانتخاب. فهل يمكن عون أن يرفض توقيع مراسيم الحكومة إن لم تحصل القوات اللبنانية على حقيبة سيادية كما هو حال التفاهم المسبق بينهما، أو إذا لم يحصل هو نفسه على الحصة التي يريدها كرئيس "مستقل عن التيار"؟ أو هل يرفض شروطاً يضعها حليفه الأساسي حزب الله على التشكيلة وحصة القوات والبيان الوزاري، أو يتخطى ما يطلبه الحريري من حصص مسيحية وهو الذي طالب بإقصاء المستقبل وأمل عن وضع يدهم على هذه الحصص؟ أم أن التفاهم الذي أتى به رئيساً سيضطره إلى تأليف حكومة بالتي هي أحسن، وتكون تالياً شبيهة بحكومات الوحدة الوطنية السابقة التي تصطدم عند أول الطريق بالحائط المسدود؟ وأين الحدود الداخلية التي سيضعها مع القوى المسيحية حليفة أو خصمة، في مسار العهد الجديد، إن بالتعيينات على أشكالها، أو في إدارة الحكم؟ وهل الحدود التي يرسمها مع رئيس الحكومة ورئيس المجلس النيابي، وحزب الله، ستكون بصفته ممثلاً للتيار الوطني، أم بصفته رئيساً للجمهورية؟
وامام عون تحدٍّ دولي وإقليمي في علاقاته مع الدول وتجاذباتها الإقليمية ــــ العربية، وفي المواقف الأساسية التي سيضطر إلى اتخاذها في كثير من المحطات الداخلية في استحقاقات مفصلية، لها صلة بانعكاس التطورات الإقليمية على لبنان. وهو أيضاً موضوع تحت المجهر الغربي، بعد مباركة سياسية دولية لوصوله، وتسليط الضوء عليه في الإعلام الغربي كرئيس حليف لحزب الله، مع ما يعني ذلك من خطوط حمر سياسية وأمنية موضوعة حوله في انتظار معرفة إن كان سيتخطاها أو لا.
أما الحريري، ففرصته اليوم هي الأخيرة، بعد صعود وهبوط وتأرجح بين لبنان وخارجه. والتحدي الذي خاضه أخيراً بالانتقال من ترشيح النائب سليمان فرنجية، إلى ترشيح عون وانتخابه، يضعانه أمام مسؤولية إقليمية ودولية. فالسعودية ترصد المسار الجديد للحريري بعدما غامر برصيده من أجل تثبيت مساره الجديد مع عون، واندفاعته في تأليف الحكومة وشكلها وخطواتها ستكون مؤشراً على مستقبله السياسي ولعلاقته مع السعودية بعدما استنفد كل رصيده ورصيد الرئيس الراحل رفيق الحريري معها. والفرصة اليوم سانحة، لأن دول الخليج، وخصوصاً السعودية التي "سَئمت" الرمال السورية المتحركة، عادت لتصوب وجهتها إلى لبنان، ممسكة بكافة القوى السنية بكل أطيافها وتوجهاتها. وقد تكون تلك المرة الأولى في تاريخ العلاقة السعودية مع القوى السنية في لبنان، إن أمسكت الرياض بكل خيوط هذه القوى على تناقضاتها.
وأداء الحريري المرصود سعودياً، يكمن أيضاً في علاقاته مع حلفاء السعودية في لبنان، وهي وإن كانت قد باركت لعون انتخابه، إلا أنها لم يعرف عنها أنها تخلت عن أيٍّ من حلفائها التقليديين أو حتى الحديثين كما حصل بعد عام 2005 . لذا، يمكن مراقبة أداء الحريري وإمكان تخليه عن "رفاقه"، لمصلحة إنجاز حكومة تحوله بسرعة من رئيس مكلف إلى رئيس حكومة، لأن أي يوم إضافي يمرّ من دون الانتقال إلى السرايا يعني أزمة إضافية هو في غنى عنها.
وإذا كانت مطالب اللبنانيين المحلية تتأرجح بين النفايات والكهرباء والمياه وأزمات السير، إلا أنها لا تتصدر الأولويات الدولية، لأن تأليف الحكومة وإجراء انتخابات نيابية هما أكثر العناوين جاذبية لدول أوروبية، ولواشنطن أيضاً. وهذان المعياران سيحكمان أيضاً على أداء الحريري، وحكومته الأولى في عهد عون، قبل أن تنتج الانتخابات النيابية أكثرية جديدة، تأتي به رئيساً ثانياً، ما لم تتغير الظروف وتفرض إيقاعاً آخر للعهد.