يبدو الإهداء الذي دونته الكاتبة اليمنيّة ندى شعلان في مُفتتح روايتها الثانية «بئر زينب» (نوفل- بيروت) مدخلاً جيّداً للولوج إلى نقطة مُختلفة في سياق السرد النسوي اليمني الجديد والمُنحاز في غالبيته لفكرة الأنثى المغلوبة على أمرها وبقاء الرجل شراً مُطلقاً. تقوم شعلان بتوزيع إهدائها «إلى من لم تمنحنا أقصى ما تستطيع، بل أقصى نفسها... أمّي. إلى إخوتي، وخصوصاً أخي عبد الحكيم الذي كان أبي أيضاً».
مع الدخول في صفحات الرواية، سيبدو هذا الإهداء مفهوماً وهو يقدّم عملاً لا يهدف إلى إدانة جنس بعينه بقدر انشغاله بكيفية القبض على الفعل السلبي بحد ذاته من أيّ طرف كان بعيداً عن إشكاليات الإدانة المُسبقة. بالتالي، سنرى عملية تفكيك هادئة لبنية مجتمع قَبَلي يمارس حياته في زاوية مُهملة من العالم ولا يدري به أحد.
من هنا سنفتح «بئر زينب» من نقطتها الأولى وهي تندلق من لحظة زمنية تالية لـ «الربيع اليمني» أو ما سمّي «ثورة الشباب» التي كانت ضد نظام علي عبد الله صالح وما تلاها من وقائع أتت جارحة بحق أصحابها وأظهرت كيف أن «الأحزاب خطيئة الثورة».

لكن هذا لن يكون سوى قاعدة انطلاق لتروي زينب تفاصيل حياتها الماضية «ومأسآة العيش في أمكنة ملغومة بالذكريات».
يبدو استخدام تقنية السرد بأثر رجعي وسيلة وحيدة أمام الراوية لتأخذنا في رحلة إلى أيّامها الماضية. استغلال مصادفة تقاطعها مع أحد جرحى الثورة في المستشفى الذي تأتي إليه لقضاء حاجة.
ذلك الجريح كان تلميذاً في مدرسة شقيقها الذي مات في ظروف غامضة بعدما نجح في زرع بذرة الثورة في نفوس تلامذته.
تزيح زينب عن نفسها هنا صفة البطولة لتمنحها لآخرين، خصوصاً شقيقها المقتول. تفعل هذا منذ بداية انطلاق مهمتها في سرد الماضي وإعادة تقليبه في الضوء كي تتمكن من نيل حقها في الشفاء منه. وهنا تبدو صاحبة العمل وقد قررت الخوض بشجاعة في سيرة «العشق الممنوع» وتبعاته داخل دائرة العائلة الواحدة.
تتورط زينب في سيرة حُب كُتب لها أن تنمو في الظلام. «أحبّك لدرجة أنَّي مستعدة لمنحك نفسي الآن وهنا»، تتراجع «فكرة العار» ليتقدم هذا الحب الذي لن يذهب إلى الأمام، بل سيصطدم بحاجز رغبة شيخ القرية في زينب... هي التي تحب ابنه. لكن هذا الأخير مجرد لقيط سيكون مجبراً على الانسحاب لصالح الأب العلني في حين يبقى الحب مشتعلاً ومقسوماً بين ثلاثة أطراف ويجمعهم البيت نفسه.
لن ننسى هنا زوجة الشيخ القديمة التي ترغب ثأراً لنفسها حيث تستخدم الابن اللقيط والعاشق الخسران لتفكيك صورة العائلة، وإشعال ثورة الشك في قلب العجوز تجاه زوجته زينب، فيتساءل كيف صارت حاملاً، وهو العاجز. تتقدم صورة الأنثى السلبية إلى نهايتها حيث يُقتل الرضيع ليظهر الجميع كضحايا. لم تكن زينب بريئة تماماً وهي تعرض جسدها لصاحب الحب القديم.

إقحام الثورة اليمنية أثقل تفاصيل الرواية

بالتوازي مع ذلك، سنرى واقعة غرام مُحرمة تنتهي بقتل شقيق زينب، لكنها ستبدو مكتوبة في إطار فانتازي علني لا يتوافق تماماً مع قانون الغرام السائد في هذه البيئة الاجتماعية المحكومة بواقع التخفي وتحقيق فرص التلامس في المناسبات التي يتيحها غطاء الليل وسواده، فلا يراها أحد.
سيكون علينا الانتباه لقدرة صاحبة العمل الجيدة في القبض على مصائر الشخصيات الكثيرة التي احتوتها «بئر زينب» والسيطرة عليها بحيث تبقى العلاقات بين الأطراف جميعها قائمة بقوة دونما توهان أو خلط بين هذا أو ذاك أو تلك.
إلى هنا، كان لهذه الكتابة أن تنتهي بشكل مفاجأة عبر تمويه متقن فعلته شعلان، لكن الثقل السلبي يأتي مع إقحام سيرة الثورة بين تفاصيل «بئر زينب» لتعمل على كسر حالة التوتر اللذيذة التي تنتجها قصص «الغرام الممنوع» وعرضها بتلك الجرأة والاقناع والتوغل في تفاصيل الغرام في سياق الأحداث التي جاءت موزعة بين شخصياته على اختلاف أشكال ذلك الغرام.
ستبدو سيرة الثورة أو «الربيع» اليمني ظاهرة بأثقال أخرى في «بئر زينب» وهي تعطي للسرد نبرة خطابية وبُعداً تنظيرياً سياسياً منح تلك الأجزاء التي حملتها سيرة الثورة ملمحاً توثيقياً وأتى من طرف واحد. كما أن اقحام فكرة الثورة من أساسها سيظهر مناقضاً لما سيأتي على لسان أحد شخوص العمل وهو يقول بشأن تفسير الأحداث التي كانت في سياق ذاك «الربيع» أن الزمن هو وحده «من سيميط اللثام عن غموض الأحداث في اليمن».
يمكن القول إنّ سيرة الثورة التي أتت في «بئر زينب» لتغرقها في تفاصيل محليّة، ستجعل قارئاً غير يمني غريباً عنها، إذ أتت بعبارات واسعة تفترض من قارئها معرفة تفاصيل ما جرى، فلا يحتاج توضيحاً. على سبيل المثال، تتوقف الرواية عند قضية «جرحى الثورة» الذين أهملهم الجميع ومسؤولية «أحزاب اللقاء المشترك» وواقعة انفجار «مسجد النهدين»... مرويات أخذت مساحة كبيرة من «سيرة الثورة» المشتتة في تفاصيل «بئر زينب» ولا علم لقارئ غير يمني بها، وسيكون بالضرورة بحاجة لشروح إضافية كي يصبح في قلب تفاصيلها أو ربما هو يعرف هذه القصص لكن بصورة عامة أتته عبر عناوين نشرات الأخبار أو مانشيتات الصحف العربية. وهذا ما لا يمكن لعمل روائي أن يكون مؤهلاً ليصبح حاملاً لها، بل إنّها مهمّة تقوم بها المقالات السياسية.