لا يخفى على أحد أن بين اللبناني وشركات التأمين علاقة "غير ودية". أكثر المواطنين ينظرون إلى هذه الشركات باعتبارها خصماً لا سنداً. تجارب عديدة تؤكد هذا الواقع، والقصص التي تسمعها كل يوم عن مشاكل المؤَمَّنين والشركات لا تكاد تنتهي.إن كان الصيت للمصارف، فالفعل لشركات التأمين، وإن تقصدت أن تبقى خارج دائرة الضوء حفاظاً على مصالحها. جغرافياً، يضم لبنان أكبر عدد من شركات التأمين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تتبعه مصر، فالمملكة العربية السعودية. في عام 2017، بلغت أقساط التأمين المكتتبة لدى شركات التأمين اللبنانية نحو 1.7 مليار دولار، ما يمثل 4.74% من مجموع الأقساط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أما على صعيد الربحية، فقد وصلت الأرباح المجمعة لشركات التأمين اللبنانية إلى نحو 170 مليون دولار في عام 2017، لترتفع بذلك حصتها من إجمالي أرباح شركات التأمين في المنطقة من 6.61% عام 2016 إلى 7.88%.
وهكذا، يشكل هذا القطاع الحيوي ما نسبته 3% من الناتج المحلي، وكانت هناك محاولات جدية من قبل المعنيين أخيراً لرفع أقساط التأمين من ١.٥ مليار إلى ٣ مليارات دولار أميركي خلال الفترة المقبلة، لكن يبدو أن هناك من يسعى إلى فرملة هذه الاندفاعة.

واقع مشرذم
لسنوات، عمل قطاع التأمين في لبنان ضمن واقع متشرذم ومن دون رقابة فعلية، أوصلت الأمور إلى حدٍّ تمكَّن فيه البعض من التأثير بشكل جذري على القرارات الرقابية المعنية بتنظيم هذا القطاع وعدالة أدائه، والتي افتقرت بدورها في السابق إلى الموضوعية والتجرد. في السنوات الأخيرة برزت بوادر إصلاح جدية لقطاع التأمين في لبنان، وإن بقيت خجولة. محاولات إصلاحية تصدى لها "كارتيل" من المنتفعين من شركات ووسطاء في مسعى للتعطيل أو التضليل، أو إقصاء الساعين إلى إحداث تغيير في واقع تتحكم فيه طغمة ذات خلفيات تتشارك في المصالح والمنبت.
60 مليار ليرة هدر سنوي لتمويل عمولات غير مبررة


في ظل الحديث اليوم عن إطلاق معارك الإصلاح ومحاربة الفساد، ومع قدوم منصور بطيش إلى وزارة الاقتصاد المعنية بقطاع التأمين، نظراً إلى الخلفية التي يتمتع بها الرجل، استبشر كثيرون خيراً. ومع أن فترة 100 يوم سماح لم تنتهِ بعد، لكن يمكن القول إن المكتوب يقرأ أحياناً كثيرة من عنوانه. ولائم واستقبالات وصور وتوزيع ابتسامات، يصاحبها كلام كبير عن استراتيجيات عظيمة ومبادئ رنانة، لكن على أرض الواقع يكثر الكلام عن خشية حقيقية من احتضان فاسدين وصون إماراتهم كي تبقى وتتمدد.
ألم يكن من الأجدى بلجنة مراقبة هيئات الضمان ورئيستها بالإنابة نادين حبّال أن تنظم ورش عمل للشروع الجدي في تنظيف القطاع من "الدكاكين" التي تسرق المواطنين وتهدد القطاع بإفلاسات وتعيق تطوره، بدلاً من تنظيم الحفلات وإطلاق الخطب الرنانة، أم أنه ممنوع على اللجنة ممارسة دورها الرقابي بسبب أجندات سياسية واقتصادية وتنفيعات؟ وهل أن الشركات والوسطاء من مموّلي الأحزاب باتوا معصومين عن الخطأ وخارجين عن إطار الرقابة والمحاسبة؟

خوّات وعمولات
قد يكون اللبنانيون سلموا مرغمين بما فرض عليهم يوماً كـ"خوّة" تحت مسمى "التأمين الإلزامي على المركبات"، لكن هل من المسموح أن يستمر البعض بجني الأموال الطائلة من خلال هذا النوع من التأمين؟ وهل من المقبول أن يبقى هذا التأمين حكراً على عدد من الشركات المتآمرة مع شبكة من الموزعين ضمن منظومة يتم فيها "تطيير" ما يوازي ٤٠.٠٠٠ ل.ل. من سعر البوليصة البالغ ٦٥.٠٠٠ ل.ل. عبر عمولات يتقاسمها هؤلاء مع المديرين العامين.
تؤدي هذه المنظومة، القائمة على "كارتيل" متحكم من الشركات، عملياً، إلى هدر ما يزيد على ٦٠ مليار ل.ل. سنوياً تذهب لتمويل عمولات غير مبررة، في وقت يعمد فيه أكثر هذه الشركات إلى إحالة ضحايا حوادث الطرق إلى موازنة وزارة الصحة على سبيل المثال لا الحصر. في بلدان العالم، يكون جزاء مثل هذه الممارسات هو السجن باعتبارها من الجرائم الجنائية، لكن في لبنان تستمر هذه الدوامة لتمويل الأغنياء من جيوب الفقراء، ويبقى التأمين الإلزامي ضريبة مفروضة يذهب ريعها إلى جيوب بعض المستفيدين من ضعف الدولة وأجهزتها الرقابية. فهل ستبقى ميزانية وزارة الصحة العامة متاحة للاختراق من دون أي ضابط أو رادع؟

من سيسدّد حقوق المواطنين في قضية شركة AUG التي أفلست؟


تبرر تغطية هذه الممارسات محاولات إبطال بعض القرارات الأخيرة التي تنظم موضوع التأمين الإلزامي، بعد أن كانت لجنة مراقبة هيئات الضمان قد بادرت في الفترة الأخيرة إلى التحرك للحفاظ على حقوق المواطنين. وكانت اللجنة قد أصدرت تعميماً أدى في مفاعيله إلى لجم بعض الانفلات في السوق من خلال تفعيل الموافقة المسبقة على المنتجات التأمينية، وحالت بذلك دون تخفيض المنافع التأمينية والتي هي أساساً غير واضحة ودون المستوى المطلوب، وذلك عقب قرار مجلس شورى الدولة الذي أبطل عدداً من القرارات الوزارية التنظيمية التي صدرت منذ ما يزيد على ١٥ عاماً.

قنابل موقوتة
قبل أشهر معدودة، تم تطبيق قرار توفير ضمانة التجديد لجميع عقود تأمين الطبابة والاستشفاء الفردية منها والجماعية GR التي تصدرها شركات التأمين. وقتها عُدّ هذا الأمر بحسب كثيرين إنجازاً كبيراً حمى حقوق المواطنين بعد أن تم ضبط المنافع بالحد الأدنى لمصلحتهم، السؤال اليوم، ماذا سيكون مصير هذا القرار الذي لم "تهضمه" شركات التأمين حينها، وهل سيسمح لها بالإلتفاف عليه؟
وفي هذا السياق، يصبح من المشروع سؤال وزير الاقتصاد ورئيسة اللجنة بالإنابة نتيجة للاستهتار الذي كان سائداً، عمَّن سيسدّد حقوق المواطنين في قضية شركة AUG التي أفلست وتم سحب ترخيصها منذ ما يزيد على تسع سنوات، وغيرها من الشركات المهددة بالإفلاس في المستقبل القريب نتيجة تهريب العمولات بكل الاتجاهات، والتأخر في تسديد المستحقات التأمينية؟
هل ستسمر اللجنة ببعض من الزخم الذي انطلقت منه في الآونة الأخيرة، أم سيتم وضع العراقيل لتعطيل الإصلاحات المنشودة لمصلحة عدد من المنتفعين، فتعود اللجنة إلى ما كانت عليه تستثمر وقتها بنشر مبادئ عالمية واستراتيجيات فضفاضة عبر صفحاتها الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي من دون أن تتمكن من تطبيق اليسير منها؟



نقابة المهندسين احتيال وفضائح
منذ مدة، يتكبّد صندوق التقديمات الاجتماعية في نقابة المهندسين في بيروت خسائر جسيمة تصل قيمتها إلى ما يزيد على 20 مليار ليرة سنوياً، يتم كسب الوقت بتغطيتها من الحجم الكبير لاشتراكات المنتسبين إلى النقابة.
اليوم، لا يوجد ما يبرر أن تبقى الهيئات الرقابية المعنية بقطاع التأمين على الحياد أمام عمليات الاحتيال التي تطال النقابات، وكان منها لنقابة المهندسين نصيب بعد الفضيحة المدوِّية التي طالت نقابة المحامين، والتي كانت ناتجة عن منظومة تمرير عمولات التأمين وإعادة التأمين وشركات الـ TPA واختلاق بوالص لأشخاص غير مستحقين يتم تمويلهم من الاشتراكات التي يسددها المهندسون والمحامون، فهل سيبقى قسم من عمليات التأمين الطبي خاضعاً للتشرذم والفوضى وعمليات الغش والاحتيال مع ضياع الأقساط والمنافع من أصحابها؟

* [email protected]