على مشارف فصل الصيف تتجدد النغمة عينها عن السيّاح هذا الموسم والتمنيات بأن تكون أعدادهم كبيرة وواعدة. لكن على قدر أهمية السيّاح ودورهم في تحريك العجلة الاقتصادية في العديد من القطاعات، فإن مقاربة الموضوع من حيث عددهم تُسهم في التعمية، عن قصد أو عن غير قصد، على موضوع بالغ الأثر والدلالات، وهو «المركزية السياحية» في لبنان. فالمشكلة تكمن في أنه بغضّ النظر عن حجم الوافدين الأجانب إلى لبنان، فإن إنفاقهم بغالبيته العظمى يتركز في منطقة واحدة من جهة، ويفيد قطاعاً واحداً بالإجمال على حساب سواه من القطاعات من جهة أخرى.يطرح هذا الواقع على بساط البحث مسألة الإنماء المتوازن والاستراتيجيات السياحية المتّبعة لتعريف السيّاح بالمناطق المختلفة من لبنان، إضافة إلى الخطط والتحفيزات التي يفترض بالدولة تقديمها إلى الراغبين في الاستثمار خارج بيروت، خاصة أنه في ظل استفادة العاصمة من القسم الكاسح من إنفاق السيّاح، سيدفع هذا الأمر أي مستثمر طامح إلى تحقيق الأرباح، إلى توظيف أمواله فيها وتجاهل باقي المناطق والمدن.

دول تحتكر الإنفاق
قبل الغوص في «مكان» إنفاق السيّاح، وفي أي قطاعات، من اللافت أن عدداً محدوداً جداً من الدول لا يتجاوز أصابع اليدين يستحوذ مواطنوهم على النسبة الأعظم من الإنفاق السياحي في لبنان. فوفقاً لتقرير صادر عن شركة GlobalBlue يتناول إنفاق السيّاح في لبنان ممن استردوا قيمة الضريبة على القيمة المضافة VAT على مشترياتهم خلال عام 2017، يتبيّن أن مواطني 10 دول فقط (السعودية والإمارات والكويت وسوريا وفرنسا والأردن ومصر والولايات المتحدة وكندا وقطر) استحوذوا على 66% من الإنفاق السياحي في لبنان، فيما تقاسمت باقي الدول قاطبةً نسبة الـ 34% الباقية. حتى إن إنفاق السيّاح القادمين من السعودية (14%) والإمارات (12%) والكويت (7%) وقطر ( 4%) بلغ نسبة 37%، أي بأكثر بـ 3% من جميع السيّاح الذين قصدوا لبنان، ما عدا الدول الست الأخرى المذكورة أعلاه.
وإن كانت هذه النسب تفيد بشيء، فإنها تفيد بإشارتها إلى مدى ارتباط القطاع السياحي في لبنان بعدد ضئيل جداً من الدول، ما يعرّضه للتضعضع عند أول مفترق في حال نشوب أزمة مع بعضها، وهو ما أثبتته العلاقة المتأزمة طوال أعوام مع دول الخليج، التي تعود تدريجاً إلى طبيعتها.
حاز البقاع والجنوب والشمال 1% فقط من إنفاق السيّاح عام 2017


في هذا السياق يبيّن الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي أنه على الرغم من التفاوت الكبير في النسب، إلا أنه يمكن فهمها متى شرّحنا السيّاح. «فهنالك سياحة الأفراد، وسياحة العائلات، وسياحة المجموعات. وسياحة المجموعات تتميز بإنفاقها المحدود، وهي التي تعتمد على المكاتب السياحية، والتي ينخرط فيها معظم سياح العالم. أما الذين ينفقون بكثرة، فهم الذين يقومون بالسياحة الفردية أو السياحة العائلية، وهم بالنسبة إلى لبنان إجمالاً مواطنو الدول العربية والخليجية منها تحديداً، وهو ما يشرح لماذا يستحوذون على القسم الأكبر من الإنفاق».

بيروت أكبر من لبنان
في الجغرافيا والسياسة، إن مساحة لبنان هي 10,452 كم مربع. أما في الاقتصاد، فمساحته الفعليّة تنحصر في نطاق مدينة بيروت، أقله بالنسبة إلى السيّاح. فوفقاً للتقرير حازت بيروت 80% من إنفاق السيّاح، مقارنةً بنسبة 14% لقضاء المتن و3% لقضاء بعبدا و2% لقضاء كسروان. يبقى 1%، تتقاسمه باقي المناطق اللبنانية من الجنوب إلى البقاع والشمال.
بمعنى آخر، قلما يهمّ المناطق اللبنانية، باستثناء بيروت والمتن إلى حد ما، إن أتى السيّاح أو لم يأتوا، ما داموا لا يستطيعون «تقريش» مجيئهم.


ووفقاً ليشوعي، هنالك «مشكلة تسويق لمختلف المناطق اللبنانية، باستثناء العاصمة، وميزانية وزارة السياحة لا تشجع في هذا المجال لمحدوديتها. كذلك إن المهرجانات المناطقية، بقسمها الأغلب، تتركز في فصل الصيف فقط حيث تكون المنافسة كبيرة، فيما يفترض بالمناطق أن تستفيد أكثر من باقي الفصول لتنشيط السياحة واستقطاب الزوّار، وتحديداً في مجالات السياحة الدينية والسياحة الريفية، التي رغم الخطوات المتّبعة في هذا المجال، إلا أنها لا تزال غير كافية».
حتى التعميم على بيروت ككل، فيه من المظلومية الكثير. فعلى ما يظهر التقرير، إن وسط العاصمة استحوذ على 54% من إنفاق السيّاح، فيما مناطق أخرى في نطاق العاصمة الجغرافي تعاني تهميشاً لافتاً، إذ إن حصة الأشرفية من الإنفاق تبلغ 12%، وفردان 6%، والحمرا 3% فقط.
(جدول).
التفاوت الكبير في النسب يمتد أيضاً إلى القطاعات التي «يصرف» فيها السيّاح أموالهم، وهو ما يشير إلى محدودية كبيرة وانعدام في الجاذبية لدى العديد منها. وفي هذا الإطار، يكشف التقرير أن قطاع الموضة والملابس نال حصة الأسد من إنفاق السيّاح بنسبة 69%، يليه قطاع المجوهرات والساعات (16%)، ثم منتجات المنازل والحدائق (4%) تليها المتاجر (4%) وغيرها من القطاعات بنسبة (7%).

* [email protected]