لم تخبرنا الحكاية ما إذا كان الأمير قد افتُتن بجمال حذاء سندريلا أو بحجم قدمها. في الحالتين كان سعيه خلف تلك المجهولة مشدوداً نحو الجزء السفليّ من جسدها. في فترة طفولتنا، لم يكن يعنينا مقاس قدم تلك الحسناء ولا حتى مقاس أحذيتنا، غير أننا كنا متأكدين أن حجم أقدامنا يتمدّد مع كل «فلقة» نتعرض لها عبر القضبان الخشبيّة الطويلة التي انهالت على أرجلنا بدون رحمة، عقاباً على «فرض» مدرسي لم ننجزه، أو قصيدة شعرية لم نحفظها. كانت مدارسنا، عيّنات مصغّرة عن طرق التعذيب في المعتقلات، إذ كان كعب القدمين هو المكان الأمثل لإذلال الشخص، من دون أن ينتهي الأمر بإحداث عاهة مستديمة للشخص المدان.
فيليب غوستون، «قدم على السجادة»

آنذاك كانت عقولنا الطريّة منشغلة بمسائل أكثر أهميّة، مثل سرعة قدم بروس لي في الركل، قدم البطل «جونغر» البطيئة في الركض، وسلاسة قفزات «ستيف أوستن» التي يقوم بها من علوّ شاهق مستقراً على قدميه بدون اهتزاز. كل هذا لم يشوّش على مخيّلاتنا في عمليّة رسم وجوه البشر في السلسلة الأشهر «توم وجيري»، فقد بنيَت فلسفة العمل على حجب الرؤوس، مبقين على باقي الجسم، حيث ينصبّ تركيزنا على الأقدام، وهي الأقرب إلى النطاق الحركي للقط والفأر. ما مِن أمر يغيظ الأطفال أكثر من حذف شيء ما، من دون أن تكون هناك إمكانية لحلّ اللغز وفكّ الأحجية وكشف المستور. عرِفت آنذاك أن وجه تلك المرأة السمراء المكتنزة والغاضبة، كان مختلفاً بين ما هو في مخيّلتي، وما هو في مخيّلات أترابي.

كعب «أخيل»
كاد «أخيل» أن يكون من الخالدين بعد أن ارتُمس صغيراً في نهر ستيكس. لكن موضع الأصابع التي حملته من قدمه حالت دون وصول المياه إلى تلك البقعة الكامنة في أسفل قدميه، فكانت تلك هي الثغرة التي ولدت له نقطة ضعف، سمحت لـ«باريس»، عدوّ «أخيل»، بتسديد سهمه المسموم نحو ذلك الموضع من أسفل القدم، لتموت تلك الشخصيّة الأسطورية على الفور. ربما كان التشكيلي بول غيراغوسيان أكثر قوّة، إذ بُتِرَت قدمه جرّاء خلل في المصعد الكهربائي، في بناية الزهراء، في رأس بيروت، فلَم يجزَع، وبقي على تماسكه حتى نُقل إلى المستشفى، ليمضي بقية عمره بقدم واحدة، وألف فرشاة، يتسرَّب انفعاله من خلالها، ألواناً حادّة، لحشود من البشر المكدَّسين جنباً إلى جنب، بأقدام كثيرة.

آلام القدم المقطوعة
احتاج نوع الهوموسبيان لملايين السنين حتى يبلغ النتيجة التي نعرفها اليوم عن جسم الإنسان. لقد فعلها ذلك الكائن المعاند. وقفَ على قدميه ومشى. مرحلة تحوّل انعكست على باقي العظام، كما على اختمار كينونة الإنسان المرتكز على قدميه الحافيتين، اللتين كابدتا كثيراً حتى بلغتا مرحلة ارتداء الحذاء ذي الأربطة.
لكن بعضنا احتاج «فردة» واحدة، مثل غيراغوسيان، أو مثل جون سيلفر، الشرير الساحر في قصة «جزيرة الكنز» للكاتب الإسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون. تحوَّلت القصة، مسلسلاً كرتونياً يابانياً، ليبهرنا سيلفر بصوته الرخيم، وإيقاع عكازه الخشبية على أرضيّة السفينة. في مسرحيته «مذكرات أيوب»، يتحدث روجيه عساف عن احتفاظ الذاكرة بمكان القدم، وأوجاعها، حتى بعد بترها، فما اقتطع من الجسم الفيزيولوجي، لن يختفي بالضرورة من الحيّز السيكولوجي.


ثنائية القدم واللغم
مَن هو الأكثر أهميّة، دماغ مارادونا أم قدمه؟ هل كانت موهبته في ذلك الجزء التحتي الملتصق بالعشب الأخضر، أم هيَ هناك، عند الثلث الأعلى من الرأس؟ غير أن القدَم تُرى والدماغ لا يُرى. وفي المحصّلة فاللعبة اسمها رياضة كرة القدم. راقصة الباليه أيضاً تتميّز بمهارات محتشدة في قدميها، وفنون القدمين تتكثّف عند رؤوس الأصابع، فترقص الراقصة المعروفة بحجمها الضئيل مثل فراشة تقفز من زهرة إلى زهرة. رشاقة سوف تنفع تلك النحيلة لكنها لن تنفع الجندي العالق في حقل الألغام. هناك، في الأرض الموشّاة بتلك الألغام الفرديّة المموَّهة ببعض الهشير والحصى، سوف يمشي الجنديّ بتثاقل، مرتجفاً، إلى أن يخطئ التقدير، فيدوس على أحدها، فيتسمرّ فوقها باحثاً عن مخرَج لورطته. في تلك اللحظات تنبجس القصيدة، في ذلك المصير المعلَّق بين الوصل والفصل. ثوانٍ من الرعب العظيم، حيث سيفقد ما يراه، لتبصر عيناه آخر لقطات لتلك القدم الملتصقة بالجمر المضمَر.
لقد أشبَع الأدب أقدام الفقراء بالقصائد والشعارات والأغاني. فها هو توفيق زيّاد يقبّل الأرض تحت نعال الكادحين، بينما يتغنّى نزار قبّاني بحافية القدمين، أمّا ناجي العلي فقد رسم قدمي حنظلة بحجم مبالغ فيه، لكثرة مشيها بدون حذاء.

«فيتيش»
لكن الناس فيما بينهم، اعتادوا على الاستعانة بالقدم لتحقير الآخر وشتمه، إذ تسمعهم يقولون: «إجري فيك»، «لإجري»، «مثل إجري»... وذلك لأن تاريخ الأقدام مرتبط بمخالطتها التراب وأوساخ الطرقات، والرائحة السيّئة. كان هذا قبل أن تظهر المهن الأنيقة، والوظائف المكتبية، أو حتى البيتيّة، بحيث تحسّن صيت الأرجل، بل صارت محور الرغبة، و«فيتيشاً» عند البعض. فهناك من خصّص مراكز التجميل والتزيين، لإعلاء مكانة القدمين، وطلاء أظفارهما، أو حتى تخصيص خواتم لتلك الأصابع الصغيرة، عدا عن الخلخال الذي صدحت باسمه الأغنيات، والمواويل.
في عيادات العلاج بالطب الصيني، أو حتى العلاج الفيزيائي، يتم التعامل مع أسفل القدم كمركز متّصل بباقي الأعضاء العليا، من الجهاز العصبي، حتى الكلى، والكبد، والرئة... وحين يُنهَك المرء، ويحلّ التعب، يلجأ الجميع إلى الوصفة الجاهزة: وضع القدمين في وعاء مليء بالمياه الدافئة، مع الملح. وكأننا بهذا الفعل، نصلح الخطأ الذي ارتُكِب ذات يوم بحق «أخيل».