في موازاة معرض فؤاد خوري «لي... مكان» الذي يستضيفه «مركز بيروت للفنّ» حتى الأول من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، عهد الـ BAC إلى هذا الفنّان البصري اللبناني بفسحة حرّة أو «كارت بلانش»، كي يقترح برنامجاً من العروض لأفلام صنعها مصوّرون مثله. كل أربعاء، يعرّفنا صاحب «رسائل إلى فرانسين» إلى تجربة لواحد من المصورين الثلاثة الذين اختارهم: روبرت فرانك، ساره مون، ولوسيان كليرغ، وتربطه بكل منهم علاقة فنيّة معيّنة. الأربعاء الماضي، عُرضت السلسلة الأولى من الفيديو للمصوّر الأميركي من أصل سويسري روبرت فرانك (1924). الفنان المولود في كنف عائلة يهودية، هاجر من سويسرا إلى الولايات المتحدة عام 1947 بعدما عانى ويلات النازية خلال الحرب العالمية الثانية. في نيويورك، عمل مصوّراً للموضة، ثم تنقل بين بلاد أميركا الجنوبية وأوروبا والولايات الأميركية.
وفي 1958، أصدر «الأميركيون»، هذا الكتاب الذي كرسه واحداً من أهم المصورين العالميّين، بعدما تميز بنظرته النقديّة والخاصة إلى مجتمع أميركي مستوحد، ترجمه عبر عدسته. بعدها، توقف فرانك عقداً عن التصوير الفوتوغرافي ليستأنف نشاطه أوائل السبعينيات، وما زال حاضراً إلى اليوم. خلال تلك الفترة، اهتم بأعمال الفيديو والأفلام، منها ما شاهدناه الأربعاء الماضي في «مركز بيروت للفن»:Pull My Daisy (1959) فيلمه الأول الذي أخرجه مع ألفريد لسلي، يستحضر تياراً أدبيّاً وفنيّاً في أميركا. إنّه جيل «البيتنيكس» الذي ألهم ثورة الـ68، ومعارضي حرب فيتنام وحركة الهيبيين. الشريط الذي أُنجز مع روّاد هذا التيّار، أوّلهم جاك كيرواك وألن غينسبيرغ، سلّط نظرة نقديةً على التعليم، والدين، والجنس في أميركا، واعتُبر أحد أول الأفلام الطليعية (Avant Garde) في مطابقته بين الصورة والسرد غير الاعتياديين. وبعدما اعتُقد لفترة طويلة أنّ الشريط قائم أساساً على الارتجال، صرح ألفريد لسلي عام 1968 بأنّه صُوِّر في استديو بعد استعدادات وتمرينات مفصلة.
كذلك شاهدنا العمل الأول لفرانك «تحسينات منزلية» Home Improvements (١٩٨٥). فيديو بسيط ومؤثر عن يومياتٍ وأحداثٍ بسيطة، ترصد العلاقة بين حياة فرانك الفنان وحياته الشخصية وحتمية تداخلهما. كذلك عرض فيلم «قصة حقيقيّة» (2004/ 2008) الذي صوّره في منزله بميزانية متواضعة. واختتمت هذه الحلقة من الأفلام بفيديو فؤاد خوري «الأسطورة المتجولة» The Wandering Myth (2001) الذي يُظهر روبرت فرانك في افتتاح معرض له في مدريد. ولعلّه لم يكن في نية خوري يومها صنع فيلم، لكنه استطاع بجمالية إظهار السخف الاجتماعي في مناسبات مماثلة. وأمس الأربعاء، عُرضت أعمال للمصوّرة الفرنسية ساره مون (1941) بعنوان «أربع روايات» (2003ــــ 2007). فيها تعيد مون قراءة وتصوير ثلاث روايات لهانز كريستيان اندرسن («الحورية الصغيرة»، و«جنديّ الرصاص الصغير»، و«بائعة الكبريت»)، ورواية شارل بيرو «اللحية الزرقاء» (Barbe Bleue). تتقاطع هذه الروايات من التراث العالمي مع لغة سينمائية تضعنا في واقع اجتماعي معاصر أو محتمل، بعيداً عن «زمنية» تلك النصوص.
تهتم مون بالبعد الخارج عن الزمان، وتنتزع من عالم الجنيات أناقته، في محاولة لاستعادته في عالم الأبيض والأسود خارج الخيال. تنقل مثلاً بائعة الكبريت إلى السيرك لتهيم تحت سقف خيمته، مع موسيقى باخ المرافقة للصورة ضمن عرض مليء بالإبهار ومشحون بالحنين. لا تتردد الفنانة الفرنسيّة في تشويه الصورة في أفلامها، لتحفر عليها الوقت الذي يمرّ. تلعب على الذاكرة والنسيان، والضوء والظل. تعيد تحويل الخيال إلى واقع ثم تستعيده في خيال مختلف خاص بها. تنقلنا مون في أفلامها بين الخوف والحنين.
هذه المصوّرة الفرنسية هاجرت أيضاً إلى بريطانيا عام 1941، هرباً من اضطهاد اليهود خلال الحرب العالمية. بدأت مشوارها عارضة أزياء قبل أن تنتقل إلى تصوير الموضة عام 1970، إلى أن تخلّت عن التصوير التجاري وانصرفت إلى أعمال بصريّة أكثر ذاتيّة وانطوائية منذ أواسط الثمانينيات. للرواية حضور كبير في أعمال مون، خصوصاً الطفولة والخيال، حيث تهدف إلى خلط الواقع بالخيال. وقد قدّمت رسوماً مصورة لرواية «ليلى والذئب» (1985)، قبل أن تشرع في تصوير «الروايات» التي اختارها لنا فؤاد خوري.
ويُختتم البرنامج، مساء الأربعاء المقبل، مع أعمال فيديو للوسيان كليرغ (1934). المصوّر الفرنسي أسّس مع الكاتب ميشال تورنيه «لقاءات أرل» عام 1968، في سياق اهتمامه بتوفير المكانة للصورة كفن متكامل مثل سائر الفنون. تعلّم كليرغ التصوير وحده، إلى أن استطاع عام 1953 لقاء بيكاسو، فأراه أعماله التي أعجبت رائد التكعيبية. وبعد سنة، صار المصوّر تلميذ التشكيلي الإسباني حتى موته عام 1973. وقد اختار لنا خوري سلسلة من أفلام كليرغ الوثائقيّة التي أنجزها بين 1966 و1971 وصوّر معظمها في مدينته أرل.
يفسح لنا «مركز بيروت للفن» مساحة مهمّة لمشاهدة أفلام نادرة، ومهمّة في تكوين ثقافة بصريّة. لكن يبقى عليه بذل جهد أكبر لاستقطاب جمهور أوسع من جمهور الفنانين العاملين في هذا المجال، وبعض طلاب الجامعات.



لوسيان كليرغ: الثامنة من مساء الأربعاء 21 أيلول (سبتمبر) ــــ «مركز بيروت للفنّ» (جسر الواطي). للاستعلام: 01/397018