أصدقائي،قديماً، كنا نصرّ ونعاند البلد الخاكي لنغني للحريّة بصمت. معاً في الوزيرية كنا نغني للحريّة والمعرفة والعمق والجمال. غنينا للحريّة وكانت أمعاؤنا تصطك من الجوع وملابسنا تقطر رثة، وكتبنا مهترئة، وكانت بغداد تغرق في وحل من الدم والكراهية واللون الزيتوني ونهيق القائد وحزبه. وكان العراق الخائف الهلع أيضاً يهتف أو يتمرّد سرّاً. كنا نغنّي ونواصل العزف على نفس مقام الجمال.

كنا نغني: أيّتها الحريّة، أنت قرآني وإنجيلي. مهد طفولتي ومدرستي وفانوسي. أيّتها الحريّة، أنت أمي. أيّتها الحريّة قبّليني بشفتيك. دعيني أسكر بخمرتك التي لا تزول. خذيني نحو السماء لأكون شمساً وضياء.
أصدقائي: أين أنتم الآن؟ أين أنا الآن؟ أين هي تلك الحريّة التي حلمنا بها منذ ولادتنا؟ عاث في البلاد مغول وتتار وفرس وأميركان. كلهم داسوا على أحلامنا التي ذبلت على ضفاف دجلة. ذبلت على شفاهنا. ذبلت على جدران قلوبنا التي تحولت الى معابد سوداء داكنة لمأتم الحريّة. لا عيد بعد الآن، لا قبلات. شفاهنا التي غنت طوال الأمس تحجّرت من طول الانتظار والحرمان. الكل جاؤوا وذهبوا إلا الحريّة. ترى، هل جرحنا قلب الحريّة وأحزنّا روحها وكدرنا صفوها لكثرة ما آمنّا بها وغنّينا وصلّينا وسجدنا لها؟ فهجرتنا وتركت لنا وحوشاً لهم قلوب دواب مريضة يدوسون بتباهٍ على أدمغتنا ويفسدون أعمارنا؟
أصدقائي: بقيت وحيداً، وبكيت وحيداً، وسكرت وحيداً، وصلّيت وحيداً، وهتفت وحيداً، وغنيت وحيداً للحريّة أيضاً وأيضاً رغماً عنها وعن أي قدر. وطالعت فجأة طفلة زنجية كتبت قصيدة تقول فيها: لو أنّ الأرض مربعة لاختفينا في زواياها. لكنّها دائرية، لذلك توجب علينا مواجهة العالم. مواجهة الحياة... آه. آه كم حسدت قلب تلك الطفلة الزنجية وكم تذكّرت المسيح والحسين وغاندي وغيفارا وبوذا، وتذكرت بطلاً بقي وحيداً من قبائل الهنود الحمر المبادة وظلّ يصرخ: لن أستسلم، لن أهرب فهذه أرضي وغابة أحلامي ومهد طفولتي وعقيدتي ومنتهاي.
أصدقائي: سأواصل دربي ولن أهرب ولن أرتجف ولن أخاف. سأصرّ هذه المرّة لا على الغناء، بل على الهتاف للحريّة تحت نصب جواد سليم علِّي أعثر على قبري تحته وأنام بسلام. هناك تحت نصب الحرية، أريد أن أرقد، وأنام. أنام طويلاً أحلم أن يكتب اسمي على نحو صحيح على شاهد قبري. وأحلم أن يأتي لزيارتي ولو لمرّة واحدة ابني نالي الذي لا يجيد العربيّة. أحلم أنّه سيجيد قراءة اسم ابيه عاشق الحريّة وشهيدها بطريقة صحيحة.

هادي المهدي
(23 آذار/ مارس 2011).