دمشق | يتّفق الجميع في العالم العربي على أنّ هناك رقابة حديديّة على الأعمال الدرامية. ويتّفق الجميع أيضاً على غياب القوانين الواضحة أو المعايير المحددة التي تساعد العاملين في هذا المجال على معرفة كل الخطوط الحمراء، لذلك اختار صنّاع المسلسلات إما التذاكي والتحايل على الرقيب، أو الاتفاق معه... وجاء ذلك في الكثير من الأحيان على حساب صدقية العمل، فكانت النصوص تغازل كثيراً السلطة وتمدح بعض الحكّام... أو تشوّه التاريخ إرضاءً لهذا الزعيم أو ذاك. ولعلّ المثال الأنصع على ذلك هو مسلسل «سقوط الخلافة»، الذي قدّم صورة ناصعة عن السلطة العثمانية كرمى لعينَي رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان! وجاء تنفيذ هذا العمل بالتزامن مع إطلاق أردوغان تصريحات «قاسية» ضدّ إسرائيل، ومغازلته الشعوب العربية، وخصوصاً «الممانِعة» منها في سوريا وفلسطين.هكذا اختارت الدراما العربية أن تردَّ الجميل من خلال تشويه التاريخ وتقديم السلطان عبد الحميد الثاني في صورة مثالية، وهو السلطان نفسه الذي ارتكب إبادة جماعية بحقّ الأرمن، حتى بات لقبه «السلطان الأحمر»، في إشارة إلى الدم الذي سال في عهده! يومها، خرج صنّاع المسلسل، أي الكاتب يسري الجندي، والمخرج محمد عزيزية، والنجم عباس النوري، ليقولوا إنهم يعيدون طرح التاريخ بطريقة مغايرة تقدّم الأتراك «بصورة يستحقونها». ثم جاء الجزء الثاني من المسلسل السوري «أهل الراية» ليحكي عن «عدالة» الدولة العثمانية، في خطوة تزامنت مع تحسّن العلاقات السياسية والاقتصادية التركية ـــــ السورية.
لكن اليوم تبدو الصورة مختلفة. وقد يكون الندم يعتصر قلوب صنّاع هذه الأعمال التي بالغت في مدح تركيا. مع انطلاق الاحتجاجات الشعبية في سوريا، ووقوف تركيا ضدّ النظام السوري من خلال توجيه انتقادات لاذعة إليه، تغيّرت النظرة إلى «الجيران في إسطنبول». وردّ الإعلام السوري الرسمي على هذا التغيّر الجذري في المواقف السياسية، بعرض لقاءات أجراها مع من وصفهم بـ «عصابات مسلحة» في جسر الشغور «اعترفوا فيها بأنهم كانوا يهرّبون السلاح من تركيا، ويحملون شرائح هواتف تركية».
ويبدو أن الطين سيزداد بلّة مع تبني الموقف السوري نظرية «المؤامرة»، وإظهار تركيا كأحد أطرافها الرئيسيين. وهنا يطرح السؤال نفسه عن موقف صنّاع الدراما الذين أخذوا على عاتقهم تلميع صورة تركيا: هل سيواصل هؤلاء مشروعهم في تشويه التاريخ، والترويج لصورة زائفة عن الإمبراطورية العثمانية في المنطقة؟ أم ستفرض مصالحهم التنكّر لأعمالهم الدرامية التي لم يمضِ وقت طويل على عرضها؟
وقد يكون السؤال الأهم متعلّقاً بالدراما التركية المدبلجة التي غزت البيوت العربية، وخصوصاً السورية منها. بل أصبح الممثلون الأتراك نجوماً ينطقون باللهجة السورية. هكذا تابع الجمهور العربي قصص الحبّ المستحيلة، والعلاقات المعقّدة بين أبطال هذه المسلسلات. وبات المشاهدون العرب يعرفون أحياء إسطنبول، وشوارعها، ومحالّها التجارية. مثلاً سَحَرَ مسلسل «سنوات الضياع» الشارع العربي، وتحوّل بطلَاه يحيى ولميس إلى نجمين تفوّقا على النجوم العرب. بينما صار مهنّد عشيق نور في المسلسل التركي الشهير «نور» نجماً عربياً بامتياز، وفُتحت له الأبواب في مهرجانات واحتفالات عربية كبيرة، واحتلت صورته أغلفة المجلات، ولوحات الإعلان على الطرقات. ثم أصرت المغنية رولا سعد على أن يقاسمها الممثل التركي بطولة أحد كليباتها. ولا يزال عرض هذه الأعمال مستمراً حالياً على الشاشات العربية. لكن حتى الساعة، يبدو أن الشركات السورية لا تزال منجذبة إلى الدراما التركية، إذ تستمر في دبلجة مجموعة من الأعمال التي سبق أن اشترتها واتفقت مع المحطات على تسليمها قبل الأزمة السورية، لكن اللافت هو أن كل هذه الشركات توقّفت عن شراء أعمال تركية جديدة بالتزامن مع الموقف السوري الرسمي. ويرجح مراقبون أن يتوقّف السوريون عن تنفيذ هذه الأعمال ولو كانت لحساب محطات خليجية غير محلية. ويرى هؤلاء أنّ المنتجين سيلجأون إلى الدراما الإيرانية التي تعمل على تأسيس سوق عربي تعرض فيه أعمالها، بعد دبلجتها إلى اللغة العربية من خلال محطة «آي فيلم»، المتخصصة في عرض المسلسلات الإيرانية المدبلجة..
السياسة لعبة لا تعتمد على قواعد ثابتة، ويبدو أن الدراما التي قررت أن ترتبط بالمواقف السياسية تضع صنّاعها في موقف حرج بعد تبدلات خطيرة لم تكن في الحسبان. هل يخرج هذا القطاع من عنق زجاجة السياسة أم سيقع في المطب نفسه؟ هذا ما ستجيب عنه إنتاجات الدراما في المواسم المقبلة.



أخوة التراب

رغم الأعمال التي حاولت تزييف التاريخ وتشويهه، لا يمكن أن ننسى مجموعة المسلسلات التي عُرضت في الماضي وأبرزت حقيقة ما جرى أيام الحكم العثماني، واحتلال السلطنة للعالم العربي. ولعل أبرز هذه المسلسلات كان «أخوة التراب» بجزءيه (1996 إخراج نجدت أنزور/ الصورة ـــ 1998 إخراج شوقي الماجري). وأضاء العمل على المجازر التي ارتكبها الأتراك، وخصوصاً في عهد جمال باشا الجزّار. وقيل وقتها إن تركيا احتجّت على المسلسل، وطلبت وقف عرضه على الفضائيات العربية. ويرى بعض منتقدي غزو الدراما التركية لديار العرب أن أنقرة تحاول من خلال هذه المسلسلات «السطحية» تغيير صورة تركيا عند العرب.