بعد مخاض عسير امتدت فصوله أشهراً طويلة، صدر بيان رسمي قطع الشك باليقين: بلد الأرز لن يشارك بصفة رسمية في الدورة الرابعة والخمسين من «بينالي البندقية» التي تنطلق اليوم، وتستمرّ حتى 27 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. مشاركة لبنان في المعرض الإيطالي العريق كانت قد أشعلت سجالات كثيرة في الأروقة الفنية خلال الأشهر الماضية. ومرّت الاستعدادات للمشاركة في مراحل عدّة، قبل أن تقرر وزارة الثقافة سحب التمويل الذي كانت قد خصصته لدعم المبادرة. تعود فصول الحكاية الأولى إلى الصيف الماضي، حين تكتلت مجموعة من أهل الفن في لبنان بهدف إنشاء لجنة تضع أسساً لمشاركة وطنية رسمية في «بينالي البندقية 54»، وفي دوراته اللاحقة.
لكن، قبل الوصول إلى مرحلة اختيار المشاريع التي ستمثل لبنان، أدّت الخلافات في وجهات النظر إلى حلّ اللجنة التي ضمّت أصحاب غاليريات ومنسّقين فنيين وأكاديميين. كأنّها محاكاة عبثية لوطن تفشل فيه كلّ «الصيغ التوافقية».
عند السؤال عن سبب فشل اللجنة في إنجاز مهمتها، يواجهك المعنيّون بتبريرات وحجج متنوّعة. منهم من يحكي عن ضيق الوقت وتضارب المصالح ووجهات النظر بين أعضاء اللجنة. ومنهم من يطرح سؤالاً جوهرياً عن قيمة المشاركة الفنية بصيغة رسمية، باسم وطن يعجز عن رأب الصدع الداخلي، والتوافق على هوية وطنيّة جامعة.
ظهرت الأزمة إلى العلن مع رسالة وجهتها مجموعة من الفنانين هم أكرم زعتري، ولميا جريج، ووليد رعد، وخليل جريج وجوانا حاجي توما، وربيع مروة ولينا صانع، ومروان رشماوي، يعلنون فيها تحفظاتهم التنظيمية على عمل اللجنة.
«اقترحنا أن تكتفي اللجنة بالدور التنظيمي، وأن تعيَّن هيئة من منظّمي المعارض وأصحاب المشاريع، مهمتها فتح نقاش في الصميم في تفاصيل المشاركة، وتكون بالتالي مسؤولة عن اختيار الفنانين. كذلك أعلنا أننا نفضّل التريّث حتى عام 2013 للمشاركة بصفة وطنية ورسمية، بعد تأسيس لجنة تنظيمية ملائمة»، يشرح أكرم زعتري.
بعد هذه الرسالة، أعلن الفنان وليد صادق، منسّق المشاركة اللبنانية في البينالي الذي عينته وزارة الثقافة، أنّه مع المشاركة، لكن ليس رسمياً ووطنياً، فتلك مسألة تحتاج إلى إعادة نقاش في الصميم. وفي ظل هذه العوامل، اقترح أن تكون المشاركة فرصة لمناقشة الانتماء «الوطني» لأي وطن في ظل العولمة، وتحديداً لبنان، وسط الالتباسات المحيطة بجوهر هويته بالنسبة إلى مواطنيه. اقترح الفنان أن يحصل ذلك عبر رسائل لا تحتاج إلى أجنحة عرض، وإنما تعلق على أبواب بيوت البندقية. فكرة فلسفية مجنونة أعلن من خلالها انسحابه، بعدما حلّت اللجنة نفسها بسبب الارتباك الحاصل نتيجة التشكيك في صفتها التمثيلية أصلاً.
مع ذلك، عزا بعض أعضاء اللجنة انفراط عقدهم إلى أسباب عملية مثل «ضيق الوقت»، كما تقول مديرة «مركز بيروت للفن» ساندرا داغر، أو «صراع المصالح بين أصحاب الغاليريات الموجودين في اللجنة»، بحسب رأي كريستين طعمة. رئيسة جمعيّة «أشكال ألوان» كانت قد تحفظت على المشاركة بصفة رسمية، محبِّذة المشاركة بصفة فردية كما حصل في دورة 2007. يومها تولّى تنظيم مشاركة الفنانين اللبنانيين المنسّقان صالح بركات وساندرا داغر.
من جهته، رأى بركات أنّ «اللجنة انهارت بسبب الأنا المتضخّمة لدى بعضهم». وأبدى صاحب «غاليري أجيال» تفهّمه لموقف الفنانين الراغبين في تأخير المشاركة، مع إشارته إلى أنَّ اللجنة لم تكن تقتصر على أصحاب الغاليريات فقط، بل ضمّت أكاديميين مثل جورج رباط، ونايلة تمرز، وكيرستن شايد، ومروان عساف. «في جميع الأحوال، فإنّ تغييب لبنان عن البينالي لا يغتفر»، يقول بركات متأسفاً.
حُلّت اللجنة إذاً، لكنّ قرار المشاركة بقي قائماً، إذ تعهّد أحد أعضائها، وهو الأكاديمي جورج رباط، بأخذ الأمور على عاتقه، والسعي إلى تحقيق مشاركة وطنية رغم التحديات الموضوعية، وتململ الزملاء الذين رأى بعضهم في موقفه سلوكاً «احتكارياً نرجسياً». عمل رباط على قدم وساق، وبحماسة لامتناهية، محاولاً كسب الرهان الصعب، («الأخبار»، 19 كانون الثاني/ يناير 2011)... وإذا به يتلقّى قرار وزير الثقافة بحجب التمويل. «سحب وزير الثقافة سليم وردة التمويل والدعم الرسمي لنا على نحو فجائي ومباغت»، يقول رباط. «لكنهم يستعدون منذ الآن للمشاركة في دورة عام 2013»، يسرُّ إلينا، وفي حديثه ما يشي بخلاف ما وقع بينه وبين القيّمين على الملف في الوزارة، وسببه من يحتفظ باليد الطولى في اختيار الأسماء المشاركة.
الكلّ يحب أن يشارك. الكل يريد أن يشارك أكثر من غيره. النتيجة: مشروع وطني بحجم مشاركة لبنان الرسميّة في «بينالي البندقيّة»، يكون نصيبه الفشل الذريع.



«بينالي البندقيّة»: ابتداءً من اليوم حتى 27 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل
www.labiennale.org