الفنّان العراقي الشهير المكنّى بـ«بيتل بغداد» (نسبةً إلى فرقة الـ«بيتلز») ليس «أسطوريّاً»! بالغ بعض النقّاد في تقدير موهبته، وأخطأ آخرون في حكمهم عليه، وخصوصاً حين اتّهموه بـ«تمييع التراث» و«تغريب المقام العراقي». أكثر ما يميّز صاحب «دشداشة» هو بساطته وصدقيّته وحساسيّته، وهو ما يتبدّى في معظم إطلالاته وحفلاته، ويفسّر جزئياً شعبيّته.
ترى، هل نظلم إلهام المدفعي إذا قلنا إنّ شهرته تفيض عن صوته وأدائه وعزفه وأغنياته؟ لا يحيلنا التأمّل في أعماله إلى خلاصات جلية أو قطعية. أسطواناته التي تفتح الباب أمام نقاش طويل حول العلاقة الجدلية بين التراث والحداثة (أو العصرنة)، لا تفاجئ ذائقتنا. مع ذلك، فإنّها تستحقّ الثناء لاعتبارات عدّة، أهمّها الإتقان، والحفاظ على خصوصيات الروح الشرقية والفولكلور العراقي، والميل إلى التجريب والتجديد، ولو بشيء من التحفّظ. الحفلة التي يقدّمها التينور المخضرم مساء غد في «أسواق بيروت» ضمن «مهرجان بيروت للموسيقى والفنون»، تمثّل إضافة نوعية، إذ تسهم في إغناء برنامج المهرجان، وتستقطب جمهوراً واسعاً، بعكس الفرق الشبابية التي تحتاج إلى مزيد من التشجيع، وخصوصاً على مستوى الإعلام المرئي والمكتوب. استعادة إلهام المدفعي لأغانٍ شعبية وتراثية عراقية («ما لي شغل بالسوق»، و«فوق النخل»، وغيرهما) هي بمثابة استعادة لـ«عراقه» الذي مُزق أكثر من مرّة، ولا يزال جرحه متقيّحاً. في إحدى مقابلاته الصحافية، تحدّث المدفعي عن دور الأغنية والفنّ في ارتباطهما بالقضية، وخصوصاً «في ظلّ الاحتلال الذي يحاول تغييب معالم الثقافة والتراث، ويستهدف كلّ من يحافظ عليهما». ألبومات المدفعي تكتسب إذاً أهمّية خاصة في ظلّ وضع العراق المأزوم من جهة، ورياح التغيير في المنطقة بما تختزنه من قيم سياسية وثقافية وفنّية بديلة من جهة أخرى. إضافة إلى تأديته أغنيات باللهجة العراقية، غنّى قصائد بدر شاكر السيّاب، وأبو القاسم الشابي («صباح جديد»)، وإيليّا أبو ماضي... تجرّأ في ألبوم «دشداشة» (2009) على تأدية أغنيةFly me to the moon (من كلاسيكيات الجاز)، وطعّمها بالقانون و«العُرَب» (زخارف نغمية شرقية)، مستعيناً بتقنية «الرش» tremolo. كذلك أدّى في الأسطوانة المذكورة أغنية «مارينا» (باللغة الإيطالية) التي يتشابك فيها النغمي tonal والمقامي (راست). رغم أنّ المدفعي يجتهد في تلوين أغنياته التي تتأرجح بين الموسيقى العربية واليونانية والتركية واللاتينية والفلامنكو والجاز والبوب الرائج عربياً وعالمياً... فإنّه ينزلق أحياناً إلى مطبّ الاستسهال، وخصوصاً على مستوى التوزيع (أغنية «التفاح»، و«لا ليلة ولا يوم»، و«معسّل» ـــ 2003...). بخفّتهما وفرادتهما أداءً ولحناً وتوزيعاً، تأخذك أغنيتا «شلونك» و«شلشل عليه الرمان». ويبدو توزيع «ون يا قلب» مقبولاً مقارنةً بتوزيع «مغربية» و«أبو نونه» الذي يُعدّ تجارياً. أما باقي أغاني المدفعي، فتشفّ عن نفَس خاص يشوبه أحياناً التكرار. جمل لحنية ومقامية تطفح غالباً بالأسى والحنين. وصلات عزفية على الجوزة (آلة تراثية عراقية فارسية الأصل) تفيض رخامةً وروحانية. جوّ يرقى في بعض الأحيان إلى مستوى ملحمي. هكذا هو إلهام المدفعي، رومانسي بامتياز، شرقي «حتّى النخاع»، ومغامر يبذل ما بوسعه لكسر القوالب التقليدية، وإن ضمن إطار النمط الاستهلاكي. لا ينجح في إخفاء الوحشة والألم، حتّى عندما يؤدّي أغنيات مفرحة. المغنّي العراقي الذي ينتمي إلى عائلة أرستقراطية، فضّل الموسيقى على السياسة في بلد أنهكه الديكتاتور والاحتلال. إقامته، طوال عقود، خارج وطنه لم تكن إذاً اختيارية. لعلّ أهمّ ما غنّاه إلهام المدفعي هو قصيدة «بغداد» لنزار قبّاني: «مدّي بساطي واملأي أكوابي/ وانسي العتاب فقد نسيتُ عتابي/ (...)/ لا تنكري وجهي، فأنت حبيبتي/ وورود مائدتي وكأس شرابي/ بغداد...». وقع هذا الكلمات سيكون خاصاً على الجمهور البيروتي.



حفلة إلهام المدفعي في الـ BMAF 8:30 مساء غد، «واجهة بيروت البحرية الجديدة». للاستعلام: 01/999666