في قصيدة «شال»، كتب سعيد عقل: «هِمْ لا تقرِّب يداً/ هِمْ بالنظرْ/ أبقى الأثر/ ما لم يزل موصداً»، أما نزار قباني فكتب في قصيدة «الرسم بالكلمات»: «لم تبقَ زاويةٌ بجسم جميلةٍ/ إلا ومرّت فوقها عرباتي/ فصّلتُ من جسد النساء عباءةً/ وبنيتُ أهراماً من الحَلَمَاتِ». أجّل عقل التفكير بجسد الحبيبة، داعياً إلى الامتناع عن ذلك، كي يظل الجسد سراً، ورغباته مكتومة. أراد أن يُطيل مسافة الحدس والخيال، بينما أسرع قباني إلى الجسد، مازجاً الخيال بالرغبة.
لا يلخص هذا المثالان فكرة الحب، ولا يختزلان آلاف القصائد والأعمال الفنية التي كُتبت عنه، ولكنّ معناهما لا يزال سارياً حتى اليوم. لا يزال الحب يتأرجح بين العذرية والإباحية. تغيّر البشر كثيراً، وتغيّر الحب نفسه، لكنّ مناصري العذرية لم يتعبوا من امتداح الأحاسيس الأولى والشغف البدائي. «لا أحبّ من الحب سوى البدايات»، قال الراحل محمود درويش، قاصداً أن ما يلي ذلك هو تأبينٌ متواصل للشغف الأول قبل أن «تلوِّثه» الرغبات والغرائز.
هل الرغبة تفسد الحب؟ هل يمكن الفصل بينهما أصلاً؟ هل هناك فرصة لتنزيه المشاعر وإبقائها نقية وحية أيضاً؟ إنها أسئلة قديمة تتجدد باستمرار كي تؤكد أن اللحظة الجسدية الأولى بين الشريكين لا تزال محفوفة بخطر زوال الشغف أو بداية انحداره نحو الصفر.
مؤيّدو العذرية، أو تأجيل الوصال على الأقل، هم أقلية اليوم كما كانوا أقلية في الزمن الذي شاع فيه «الحب العذري» في العصر الجاهلي وما بعده. أشباه قيس بن الملوح وجميل بثينة يعيشون بيننا رغم التطور الهائل والمعقد الذي أصاب الناس وأحاسيسهم أيضاً. بالمقابل، تكاثر أنصار عمر بن أبي ربيعة الذي غالباً ما يُقارن الغزل العذري بإباحيته. اكتفى جميل بثينة بحبيبة واحدة تحولت إلى لقبٍ له. أجّل وصلها كي تظل الحكاية بلا خاتمة، بينما تفاخر عمر بن أبي ربيعة بكثرة نسائه. هكذا، نفهم قول جميل: «هل الحاتمُ العطشان مُسقىً بشربةٍ/ من المُزنِ تُروي ما به وتُريحُ/ فقالت: فنخشى إن سقيناكَ شربةً/ تخبِّرُ أعدائي بها وتبوحُ».
ما يُؤجَّل هو الذي يغتني ويبقى بحسب هذين البيتين. كأن خلود الحب مشروط بالبخل به، أو بالاكتفاء بحوافه وهوامشه، وتجنّب متنه. لم يكتفِ العاشق العذري بالنظر، حسب وصية سعيد عقل، ولكنه اكتفى بمعشوقة واحدة، وظل يلهو عن وصالها بما قبل الوصال وحوله. في المقابل، يحفلُ شعر بن أبي ربيعة بأسماء نساء كثيرات، وهو الذي اشتهر بالتغزل بالنساء في أيام الحج. يقول على لسان واحدة منهن: «أومتْ بعينيها من الهودجِ/ لولاكَ في ذا العامِ لم أحجُجِ/ أنتَ إلى مكةَ أخرجتني/ ولو تركتَ الحجّ لم أخرجِ».
بطريقة ما، يبدو نزار قباني حفيداً لزعيم الغزل الصريح والإباحي في الشعر العربي، بينما يصلح سعيد عقل حفيداً متعففاً للشعراء العذريين. نزار ينتمي إلى أكثرية، وعقل إلى أقلية. ذهب الأكثريون بعيداً في تمجيد الجسد والغرائز، بينما احتمى الأقليون بالتقشف والكتمان. تاريخياً، ارتبط الغزل العذري بالبداوة والصحراء، ونُسبت الإباحية إلى المدينة والتحضّر. تقسيمٌ يبدو صالحاً حتى اليوم. المدن هي معقل الغواية والرذيلة مقابل الريف الذي يوصف بالتحفظ، ولكن هذا التقسيم تخلخل كثيراً بمرور الوقت.
صحيح أنّ «الحب كله أصبح متشابهاً/ كتشابه الأوراق في الغاباتِ»، كما يقول قباني، وصحيح أن الحياة الحديثة عممت صوراً محددة عن الجنس، إلا أن القصص الشخصية لا تزال تحتفظ ببريقها الخاص. كل حبٍّ هو نسخة جديدة ومنقّحة عن الحب. كل حبٍّ يبدأ بوهم أنه خالد وأبدي، وكل قصة حب هي حدثٌ خارقٌ بالنسبة إلى طرفي القصة. هكذا، تتراجع الأحزان والندوب لصالح السعادات الحقيقية أو المتخيَّلة، وتصبح السخرية من الأبدية مثيرة للابتسام لا الألم، كما هي الحال في قول الشاعرة العراقية دنيا ميخائيل: «أجل/ كتبتُ لك في رسالتي/ بأني سأنتظركَ إلى الأبد/ ولكني لم أقصد «الأبد» تماماً/ لقد وضعتها من أجل الإيقاع».
أخيراً، لعل أفكاراً كهذه عن صورة الحب المعاصرة، والصراع بين العذرية والإباحية، ليست ملحّة في عيد الحب، فكيف إذا تحدثنا عن الميول غير التقليدية في الحب، أو عن الفانتازمات غير المألوفة التي بات البعض يفضّلها على «السذاجة» و«الضجر» اللذين يحضران مع الرومانسية المطلوبة في الحب.
سيظل محكوماً بهذه الثنائية، وسيظل العشاق حائرين بين أبدية الشغف والرغبات العابرة. لن نفسد الحفلة بالتفلسف الزائد على المحتفى به صاحب الجلالة «الحب». هيا إذن، الاحتفال يتطلب الخفة، وزحام الهدايا الحمراء اللون يضع جانباً أي كلامٍ عن لونٍ آخر.