دعيتُ الى عشق المسرح من خلال عرض «الخادمتان» لجان جينيه من إخراج جواد الأسدي. كنت في السادسة عشر من عمري وكنت قد رأيتُ في هذا العرض منبراً للتعبير عن المشاعر وفضح الهواجس والعقد النفسية. ذهلت لمدى إمكانية هذه المساحة الصغيرة احتواء فضائح الذوات الهائمة التي تهمّشها دينامية القوة. هذا الإدراك والذهول لم يكن يتمحور فقط حول المسرح كأداة فنية بل كأداة تعبير، وإنما التعبير هو خطوة أولى في العلاج النفسي. بعد عامين، كان لي أن أختار بين اختصاصين. الأول كان حلم الطفولة وهو أن أغدو معالجة نفسية، والاختصاص الآخر هو الفن المسرحي، وكان ذلك بعدما شاهدت عرض "الخادمتان". وقع اختياري على الاختصاص الثاني لأنني كنت قد شعرت بموهبتي في التمثيل وولادة بذور رؤية مسرحية لديّ. كما أني فضّلت أن يأتي تطهير المشاعر (catharsis) بشكل متبادل بيني وبين المتفرج، وبأن أكون عنصراً مشاركاً وفاعلاً في العلاقة بيني وبين الآخر. بينما اذا اخترت مجال العلاج النفسي، كنت سألعب دور المعالج الذي لا يورّط مشاعره في العلاقة مع الآخر، وبالتالي لن يكون هناك مكان لاحتضان شغفي الشخصي.بالرغم من أني هجرت الحلم الأول، لكنه لم يهجرني هو وقد تبلور في أكثر العروض التي شاركت فيها. أهم العروض بالنسبة لي هي التي شكّلت منبراً وتميزت بخصائص ذات أبعاد نفسية واجتماعية سوف أذكر بعضها في ما يلي. آخر العروض كانت من أدائي (صولو) مع المخرج شادي الهبر في «مرا لوحدا» من تأليف داريو فو وفرانكا راما. كان هذا العمل يتميز في مساري الفني بأنه شكّل منبراً لصوت المرأة المعزولة في سجن العنف المنزلي. وكان الهم الأول لدينا أن يدوي صوتها عالياً في التعبير عن هواجسها ومشاعرها ومخاوفها إبان سلسلة من الجرائم الوحشية التي يرتكبها أزواج بحقّ زوجاتهم في لبنان. كما كانت مشاركتي قبل سنوات في عرض «شهرزاد ببعبدا» (أداء السجينات وإخراج زينة دكاش) تجربة فريدة، إذ شكّل العمل صرخة تعبر عن المعاناة النفسية والاجتماعية الحقيقية لمن هنَّ خلف القضبان. شاركت أيضاً تمثيلاً مع مجموعة من الممثلين الناشطين في اليوم العالمي ضد رهاب المثليين. وقد شكل هذا العرض مساحة للمثليين وغير متبايني الجنس لسرد حكايات الاضطهاد والظلم التي يعيشونها يومياً في المجتمع اللبناني. وكنا قد ارتجلنا هذه الحكايات بتقنية الـ Playback من أجل تكريم مشاعرهم وتقديم مساحة آمنة للغوص في مخاوفهم. أراني أنجذب الى هذا النوع من المسرح الذي يرفع أصوات من أُسكِت ومن غيِّب في المجتمع ويغوص الى دواخلهم النفسية. إن معيار تقديري للعروض التي شاركت فيها تقاس في مدى إيصال الصوت والتعبير عن صاحبه أو صاحبته وخلق مكان لمن لم يتّسع لهم المكان. لم تقتصر الأعمال على العروض، بل عملت كمدرّبة في بعض المشاريع وكان أهمها مشروع مع Save The Children للطفل اللاجئ السوري. تمركز المشروع حول تقديم مساحة له من أجل التعبير عن مشاعره واستكشاف حقوقه ومسرحتها، وأخيراً عرضها أمام مجتمعه لكي تُسمع حاجياته في وضع عصيب قد جعل صوته يتلاشى من لائحة الأولويات المعيشية للأهالي اللاجئين.
من خلال رفع الصوت المقهور والتفكر في الأبعاد النفسية له، وجدتني أغوص في البحث عن الحل. سمعت الصوت ثم ماذا؟ وجدت أن الحل بالنسبة لما أستطيع تقديمه هو علاجي نفسي واجتماعي، ما أعادني أخيراً الى حلم الطفولة أي العلاج النفسي الذي هو أصلاً النبض الأول للمسرح الإغريقي. بعد التمرّس أكثر في المهام المسرحية لمدة 17 عاماً منذ عام 1998 مثل العمل كممثلة وكإيمائية ومحركة دمى ومؤلفة ومخرجة وآخر المهام كانت كتابة النقد في جريدة «الأخبار»، أتممت جهوزيتي للإقدام على اتخاذ مسار إضافي يدمج حبي الأول والثاني، بل أقول إنه مسار يتخذ من فعل الأداء وسيلة علاج نفسي للفرد والمجموعة. حزمت أمتعتي وسافرت الى سان فرانسيسكو في صيف 2014 من أجل الحصول على شهادة ماستر في «العلاج النفسي من خلال الدراما» من دون أن أتخلى عن مساري الفني. أتساءل ما إذا كان ما أفعله الآن في هذا الاختصاص الحديث والممتع جداً هو انعكاس وتجسيد لفكرة أصل المسرح التي تعود الى مئات السنين. كما أشعر بالامتنان لأنني في هذا المجال لا ألعب دور المعالج الحيادي الكلاسيكي، بل المعالج الذي يمكنه أن يُظهر بعضاً من نفسه ويمكنه تسيير عملية لعب الأدوار كتقنية علاجية، مثلما كانت "الخادمتان" تتبادلان أدواراً من حيواتهما في مسرحية جان جينيه.
* ممثلة وناقدة مسرحية لبنانية