للدراويش تفسيرات تراثيّة متعدّدة، بينها أنّهم زهّاد طرائق صوفيّة، شديدو الفقر، متقشّفون اقتناعاً وإيماناً، يحيون من حسنات الناس. هم «درڤيش» في بلاد فارس، وكذلك Dervish في تركيا، والمتصوّف في الهند هو «الفقير» إلخ... عُرف الدراويش الصوفيّون بحكمتهم، فضلاً عن معارفهم في الطبّ والشعر، ويمكن أن يُنعتوا كذلك بالذكاء والدهاء.
«درويش» (أكريليك على كانفاس ـــ 100 × 100 سنتم ــــ 2020)

والآن يأتي السؤال: هل رؤوف الرفاعي (1954) يُسقط هذه المعاني على دراويشه المعروضين في «غاليري نادين فياض»، أم أنّه اختار هذه الشخوص من التراث الشعبي، لتكون تعبيراً عن بعض الحالات التي تعيشها بعض الشرائح أو الأفراد أو الإنسان المهمّش الذي ليس له أثر أو دور في المجتمع؟ الصوفية تحولت هنا إلى مظاهر اجتماعية تقليدية نوعاً ما، منفصلة عن المعنى القديم أي المعنى الديني. لقد أُفرغ الأخير من مضمونه، ليذهب الرفاعي إلى مضمون اجتماعي يوحي بأنّه لا حديث ولا قديم. ألبس الرفاعي «درويشه» الطربوش القديم، مانحاً إياه صفة الإنسان العادي. أفاد من معنى الدرويش (أي المسكين) في الأدبيات الشعبية، ليحوله إلى ظاهرة فولكلورية بوجوه عديدة في لوحاته.
رؤوف الرفاعي أخذ من الدراويش أسماءهم، ليتكلم عن الحاضر كأنّه مجرد مسرح شعبي أو صورة شعبية. من خلال التقنية والألوان الزاهية، يحيلنا الفنان إلى التراث الشعبي وما يمكن أن يكمن وراءه، من دلالات اجتماعيّة أو سياسية.
كان بعض المسرحيين العرب وسواهم يلجأون أحياناً إلى تبني شخصيات تاريخيّة ليشيروا بطريقة غير مباشرة إلى الواقع السياسي الذي يُهيمن عليه الطغاة. يستعملون أقنعة من الماضي التراثي لكي ينتقلوا إلى الحاضر. هل هذا ما فعله الرفاعي؟ ربما قليلاً، ولكنه اختار المعالجة الفنيّة ذات المنحى النقديّ البسيط أو المبسّط أو الضعيف. أيعني ذلك أنّه جعل من الدراويش صورة للمهرج أكثر منه لمعانيه التراثيّة والاجتماعيّة الراهنة؟

«درويش» (أكريليك على كانفاس ـــــ 50 × 50 سنتم ــــ 2018)

درويش مهمّش ضاحك قريب من الكاريكاتور أكثر من اللوحة، لكن لديه لقطات جميلة. من هنا، يذكّرنا درويش الرفاعي بأعمال الكاريكاتور أكثر من بناءات اللوحة. إنّها لحظات متنوعة تختلف فيها الأشكال والوجوه من الشاربين، والطربوش والنقاب بلغة ساخرة فكاهيّة حيناً وممتعة أحياناً. كأنّها نوع من اسكتشات متناغمة ومتسلسلة، لم يُسقط عليها أدوار هؤلاء الاجتماعية وغير الاجتماعية. لا تغيب عنها أحياناً ملامح الحزن أو الفرح التي تذكّر بتشارلي شابلن في شخصية المتسكّع أو المتشرّد التي ابتدعها في The Tramp نموذجاً إنسانياً خجولاً، بسيطاً، حائراً ، قانعاً بقدره أو ثائراً متمرّداً عليه... مناصراً الخير ضدّ الشر والظلم الاجتماعيين، ضاحكاً وحزيناً في آن. وقد عُرف بجمعه الدمعة والابتسامة في لحظة سينمائيّة واحدة. كان هذا الفنان القصير القامة، ذو القبعة والشاربين الأسودين، والسروال العريض المليء بالثقوب، والحذاء الطويل المهترئ، والعصا في يده، مثارَ إعجاب جميع الجماهير في كل مكان في عالم السينما.
ومن لا يحس أن وراء كلّ ذلك مهرجاً بدمعة في عينه. فكرة التهريج موجودة عند رؤوف الرفاعي، ولكنّها مجرّدة من تراجيديتها التاريخيّة.
فكرة المهرّج ماثلة في أعمال الرفاعي بإيقاع واحد ومتماثل، لكنّه متنوّع الألوان والخطوط. الأفقيّة في هذه الأخيرة، تضع حدّاً بين المساحات اللونيّة المتشابهة أو المتنافرة (مثل الكمامة أو الشريط اللاصق أو العُصابة...)، فيما العَمودية توحي بأنّ هناك فصلاً بين حاسّة وأخرى في الشخصية، لتدلّ على حالات فصاميّة، أو على تفكّك وخراب.
هذا كلّه لا يحجب مزاج رؤوف الرفاعي التشكيليّ ودمغاته اللونيّة وحالات الشخوص وأغراضهم وملابسهم. إنّها الفكاهة الملوّنة، أو الحزن الملوّن، فلنسمّها ما شئنا، إلا أنّها حالات إنسانيّة بامتياز في هذا المعرض.

* معرض رؤوف الرفاعي: حتى 30 حزيران ـــ «غاليري نادين فياض» (الأشرفية، بيروت) ـــ للاستعلام: 01/3359730