مع اقتراب شهر رمضان من نهايته، واتّضاح الرؤية تدريجاً حول عشرات الأعمال الدرامية المعروضة، يأتي «جزيرة غمام» (تأليف عبدالرحيم كمال ــ إخراج حسين المنباوي ـــ يُعرض على «الحياة»، «الحياة دراما»، «art حكايات»)، على قائمة المسلسلات التي نالت إعجاب المشاهدين. يجسّد «جزيرة غمام» معنى «العمل الفني المتكامل»: الإخراج، التمثيل، التصوير، الموسيقى، الديكور، الملابس، وأهمها على الإطلاق، الكتابة. إنّه أحد أفضل أعمال عبدالرحيم كمال، الذي كتب العديد من السيناريوهات الدرامية الجيدة مثل «الرحايا» (2009)، و«الخواجة عبدالقادر» (2012)، و«ونوس» (2016) و«أهو ده اللي صار» (2019).
في «جزيرة غمام»، يمزج عبدالرحيم كمال بين ثلاثة عوالم برع قبلاً في الكتابة عن اثنين منها هما الصعيدية والصوفية، وأدخل عليهما هنا عالم الغجر.
يجسّد المسلسل معنى «العمل الفني المتكامل»

في عدد من أعماله السابقة التي تدور في الصعيد ويحكي جزء منها عن التصوّف والمتصوّفين، كان الكاتب يفضّل العودة إلى الأزمنة القديمة ليقدّم نوعاً من الإسقاط على الواقع. وهو يمدّ هذه الخطوط في «جزيرة غمام» ويجمع بينها. لكن الخلطة لم تفسد، ولم يضرها التعدّد، لكنها جعلت العمل أقوى وأثقل. وما يساعد على تماسك التركيب أنّ الخطوط المتوازية تتلاقى في منطق درامي وانسجام فني، وتتشابك لتنسج قصة متماسكة، تجعلك تشعر وأنت تشاهدها أنك أمام رواية لنجيب محفوظ أو غابرييل غارسيا ماركيز.
يعود «جزيرة غمام» بالزمن إلى 1914، العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى، وأُعلنت الحماية البريطانية على مصر. ولأننا نعلم أخبار مصر من خلال الدراما كما يعلمها أهل الجزيرة المنعزلون عن العالم الخارجي، فلا يعنينا كثيراً ما يحدث خارج حدود الجزيرة. كلّ ما يهمّنا هو ما قد يفعله «طرح البحر»، هؤلاء الغجر الذين تسلّلوا إلى الجزيرة ذات يوم، كغزاة في هيئة شحاذين، وزعيمهم «خلدون» (أداء رائع لطارق لطفي)، الشيطان الذي جاء ليقضي على الشيخ عرفات، الذي يرمز إلى النقاء والتقوى بأداء استثنائي لأحمد أمين.
يُدرك خلدون أنّ عدوّه الوحيد على الجزيرة هو عرفات، ربما لأنه أنقى سكّانها، ويُدرك أنّ لا وجود له إلا في عدم وجود عرفات: «علشان خلدون يعيش لازم عرفات يموت».
في لحظة دخوله الجزيرة، نصحته عجوز الغجر: «طاطي وبعدين إخربها وفي الآخر أملكها». بدقة متناهية، يسير خلدون وفق هذه الخطة. يبدأ بأن «يطاطي» ويخنع ويتذلّل ويتملّق أهل الجزيرة، ثم يدخل مرحلة التخريب وتأليب عقول وقلوب أهل الجزيرة ضد عرفات بشتى الطرق، ثم محاولة تقسيم الجزيرة بعد إشعال فتيل الفتنة بين الحاكم عجمي (رياض الخولي) وتابعه بطلان (محمود البزاوي).
قصة متماسكة، تشعرك أنك أمام رواية لنجيب محفوظ أو ماركيز


بالتوازي، يتصاعد الصراع بين عرفات ومحارب (فتحي عبدالوهاب) رجل الدين الانتهازي، المتطرّف، اللاهث وراء السلطة والسيطرة و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
رغم بساطة السّرد، إلّا أنّ القصة تتسلّل داخل المشاهد إلى درجة تجعله غير قادر على التوقف عن متابعتها والتلهّف لمعرفة مصائر أبطالها، التي يصعب التكهّن بها رغم كلاسيكية العمل.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ أهم ما يمنحه الكاتب عبدالرحيم كمال لمسلسل «جزيرة غمام» هو النفحة الروحانية التي تظهر في شخصية عرفات، إذ يُعيد من خلالها تجسيد بعض الحكايات والمواعظ التي عرفناها عن الأنبياء والرسل، على رأسهم المسيح، بدءاً من حالة الزهد والتسامح التي تغلّف الشخصية مروراً بمهنته كنجار وصولاً إلى بعض المواقف التي يُعاد فيها تمثيل ما تعرّض له المسيح، كأن يطالبه فقراء الجزيرة بأن يدعو الله أن ينزل عليهم «فروجاً» من السماء يسدّ جوعهم بعدما صار البحر بخيلاً عليهم، وقدرته على قراءة العقول وشفاء الأرواح والسير فوق الماء. حتى علاقته بالعايقة (مي عزالدين) جميلة، فتبدو مثل علاقة المسيح بمريم المجدلية، التي ستكون «هدايتها» على يديه، وهو ما يتجلّى بوضوح عندما تذهب إليه بتحريض من خلدون لتسبّب له فضيحة أمام أهل الجزيرة، لكن عرفات يخرج على أهل الجزيرة طاهراً شجاعاً، وينهرهم على طريقة «من كان منكم بلا خطيئة...».
يسير «جزيرة غمام» بخطى ثابتة وواثقة ليحتل صدارة سباق الأعمال الدرامية لموسم رمضان 2022، بفارق كبير عن الأعمال الأخرى التي وقع معظمها إما في المطّ والتطويل أو انفلات الخيوط وتفكّك الأفكار. «جزيرة غمام»، بكل تأكيد، هو المسلسل الأفضل في رمضان 2022.

* «جزيرة غمام»: على «الحياة»، «الحياة دراما»، «art حكايات»