تدّعي الكاتبة جمانة حداد أنّ «جسد» منصّة إعلامية عربية رائدة، مستقلّة، ذات توجّه ثقافي نسوي، مُتخصّصة في آداب الجسد وعلومه وفنونه وسياساته. هي مساحة للنقاش الحرّ حول الجسد والجندر والجنسانية، فضلاً عن أشكال التمييز والتعنيف المختلفة المرتبطة بهذه القضايا في العالم العربي خصوصاً، والعالم عموماً». ظهرت مجلة «جسد» للمرة الأولى عام 2009، فأصدرت على مدار عامين، ثمانية أعداد، قبل أن تتوقّف عشر سنوات. تعلّل صاحبة المجلة انقطاع المجلة بالعوائق المادية وترفع طلباً للمساعدة على موقعها الرسمي. وتطلب عودتها إلى نشاطها بادّعاء مساهمة محتواها في التصدّي لانتهاكات الجسد ومحاربة الأنظمة الذكورية، والوقوف في صف مسائل الجندر وقضايا المثلية. عادت المجلة للظهور كما تُشير إلى ذلك حداد في الافتتاحية بتاريخ 10 أيلول (سبتمبر) 2021، تحت مسمى «منصّة للحرية ومواجهة لا هوادة فيها»، مستغلة وسائل الانتشار الرقمي السريع من فايسبوك وانستغرام وغيرهما.
أن ننتصر للجسد، ولفلسفة الجسد، وأن نطالب بحرية الجسد، لا يعني أن نحوّله سلعةً إعلانية تغطي أغلفة المجلات، «تسلعنه» كبضاعة في مواقع تبحث عن الشهرة والربح السهل وترنو كذلك ــ من دون أن تعلن طبعاً ــ إلى تدجين الوعي ونشر التفاهة باسم الدفاع عن حرية الجسد وغيرها من المواضيع المجاورة.


تتعارض المقاصد المعلنة للمجلة مع المادة المنشورة، لأننا لا نرى أي محتويات تنويرية. لا نرى في صفحات المجلة إلا انحطاطاً في النظر إلى الإنسان نفسه. لا يكون تحرير الجسد باستعماله كبضاعة. أهكذا نسهم في تحرير الإنسان من عقد الجسد؟ أهكذا يتحرر الجسد فعلاً؟ ألا يبدو أنّ الجسد في مفهومه الفلسفي الفينومينولوجي هو جسد خاص لا يحتمل العراء الفاحش، وأنّ حريته تكمن في استنطاق تعبيراته المتجسّدة، لا في حشره حشراً إيروسياً في قائمة الشهوات المكبوتة؟
تُعالج هذه المجلة المشكلات التي طرحتها قضايا الجندر والنسوية والذكورية عبر كتابات لا ترقى إلى مستوى أن تنشر؟ وتتداول بشكل رقمي متحرّر، لكونها لا تراعي حدود الكتابة الواعية. لا يحتاج الإنسان العربي إلى مادة تحصر الجسد في عالم الحيوانية البهيمية، بل يحتاج إلى وعي حقيقي، تحليلات نفسية أنثروبولوجية وفلسفية تحفر في تاريخ المفاهيم وفي تاريخ الممارسات والعادات التي خضع لها مفهوم الجسد عبر
التاريخ.
لقد تحدّث علم النفس والفلسفة عن الجسد، وأطلقت الفلسفات المعاصرة العنان رغبة منها في تحرير الجسد، لكن، للأسف، فإنّ محتوى المجلة لا يرتقي لذلك وهي تعد القارئ بما لا تقدّمه. قد تكون ملاذ بعض المنشدين لإيروسية الصورة، لكن وراء الصور المنشورة رقمياً، تختبئ إرادة في نشر التفاهة وتحويل وعي القارئ العربي نحو مواضيع لا تنفعه في تغيير واقعه، لا تسهم في رفع درجة الثقافة والوعي بالمجتمع، تنشر ثقافة الابتذال بكلّ يُسر، وتستقطب جمهوراً متنوعاً، وتطالب من الكتّاب المساهمة فيها بدعوى الانتصار لتحرير المرأة والجسد.
استغلت المجلة هشاشة الوعي العربي بالجسد وبقضايا النسوية والذكورية، فكرّست سلعنة الرغبة، وانتهكت حقوق «الجسد ــ الخاص» على حد تعبير ميرلوبونتي ودخلت إلى بيوت الناس من خلال بوابات هجينة، استناداً إلى أهداف مغلوطة. حتى الكتابات الإيروسية نفسها، لا يمكن أن تكون مبتذلة، فلا بد من تمييز الكتابات الجريئة التجاوزية ذات الهدف المعرفي وطرح الأسئلة حول علاقتنا بأجسادنا والكتابات التي تتغلّف بالجرأة ولكنها تنشر التفاهة.
ثمة مناهج معينة ينبغي اعتمادها في تناول هذه المواضيع


ثمة مناهج معينة ينبغي اعتمادها في تناول هذه المواضيع الحساسة. يمكن أن نذكر الكتابات التي تحفر في أنثروبولوجيات الثقافة، المنهج الجينيالوجي النيتشوي، المنهج الأركيولوجي لدى فوكو، القراءات التأويلية الباحثة في الرمزيات وفي دلالات الجسد والجسدانية، الكتابات الواعية في علم اجتماع الثقافة، دراسات علم النفس القائمة على بيانات وروائز حقيقية. وكذلك لا يمكن أن نغفل دور الفنون في المساهمة في إيقاظ الوعي بالذات وبقيمة الجسد لجهة كونه طاقة تعبيرية، تشكيلياً، مسرحياً، كوريغرافياً، سينمائياً.
ليس الأمر هو التحامل على المجلة، بل دعوة إلى ضرورة نقدها نقداً مسؤولاً لأنها لا تحرّر الجسد، بل تسهم في التنكيل به وفي استعباده. لم تحرّر الذهنية العربية حوله، بل تستعملها وتغذيها. فعن أي حرية تتحدث جمانة حداد؟

* أستاذة الفلسفة المعاصرة في «جامعة تونس المنار»