واقف بجانب حاوية قمامة، ومنخاره أحمر من كثرة الحك، يبدأ سلافوي جيجك التفلسف في المشهد الأوّل من فيلمه «دليل المكبوت إلى الأيديولوجيا» (The pervert’s guide to ideology) مستعيناً بالاستعارة للتبسيط والاختزال، قائلاً «من حاوية القمامة هذه، آكل طوال الوقت. وحاوية القمامة هذه تدعى: الأيديولوجيا».والآن، إذا كان المثل بفظاظته المتعمّدة صادماً، فيجب التفكير في ما نأكله مرتين، والأهم من ذلك، في الأيديولوجيا كثيراً، لأنه بعد استرساله بفكرته، يوضح جيجيك مغزاها: «إن القوّة المادية للأيديولوجيا، تجعلني لا أرى ما الذي آكله فعلياً». هل هذا يعني أن الأيديولوجيا مرادفة للعمى؟ تقريباً.
تبدو الأيديولوجيا بالنسبة إلى جيجك مثل رشّة الملح، توفّر لذّة طيّبة للطعام. لكن بتغييرها المذاق، فإنها تغيّر حقيقة الطبخة. وفي حال كنت تعرف مضارّ الملح، لكنك تتجاهل الأمر وتصرّ على تعاطيه رغبةً منك في محاكاة الحس العام، فالإغفال هذا هو، بحد ذاته، ما يعرّفه بالأيديولوجيا، بل هو الوظيفة التي تشغرها. فالنطاق الذي تتجسد فيه هو في الممارسة والفعل وليس في الوعي والفكر، وللتوضيح أكثر، في حال احتاج المعنى إلى ولادة قيصرية أو بدا التفلسف عسيراً. إن الغاية الأساسية للأيديولوجيا هي التلاعب والخداع. وهذا التلاعب يجري في معظم الأوقات بشكلٍ لامرئي ومُضمر، إذ لا يقتصر حضور الأيديولوجيا علنياً، إنما تُفضّل التغلغل بين التفاصيل وفعل في ما هو سرّي. وبالتالي، فإن حاوية القمامة تفضح. فما نراه هنالك؛ مرمياً أو مهملاً أو موضّباً جاهزاً للتدوير، ما هو سوى نتاجنا المترتب جرّاء استهلاكنا. وعليه، ففي حاوية القمامة توجد قراراتنا الخام، الفعلية منها والحقيقية، وليس المتلاعَب بها أو المضاف إليها تأثيرات الدعايات الإعلانية وعمليات تجميل للمنتج وما إلى ذلك. لكن هناك ما يجعلنا نسأل عن سبب اختيار طبيعة المثل، بالأحرى الاستعارة، بين الأكل والأيديولوجيا، التي وظفها جيجك في شرحه الفلسفي. يعود ذلك ربما، إلى طبيعة العالم الذي نعيش فيه اليوم، حيث موائد الطعام الكبيرة والكميات الهائلة من الوجبات السريعة المحضّرة والخالصة لا تشبع حركة الاستهلاك ووتيرة المستهلكين، وحيث بات المطبخ أيضاً يشكل جنباً إلى جنب المعالم الأثرية محطّة سياحية ومغناطيساً للعين. أمر يتطلّب بكل تأكيد الترويج والدعاية، أو بمعنى آخر حضور الأيديولوجيا بشكل أكثر تكريساً، من منطلق تأدية وظيفتها بالتزييف وابتداع سرديات واهنة بغية الإيمان بالشيء والإقناع به. تغدو الأيديولوجيا، على هذا النحو ــــ من حيث إنّها ابتداعٌ للخرافة وانطواء للخدعة ــــ مرادف الأسطورة.
ولنا، نحنُ، مع الأسطورة بال طويل وتاريخ عتيق. والمقصود بنحن، هذا الجمع القابل للتكسير والتقسيم، هم اللبنانيون عامّة. نحن نشرب الأسطورة في إبريق المياه على الواقف، كدليل على الرجولة، ونأكل الأسطورة صباحاً في سندويشة الزعتر بداعي أن الأخيرة مادّة سحرية تنعش الدماغ وتفتّحه. ولأن الأسطورة تجرّ معها دوماً سمات البطولة والشموخ، فلم تكن لوحات المحالّ التي تجاورنا غريبة، برغبة صاحبها أن يكون الاسم على المسمّى، هكذا نرى: ملك البطاطا، ملك الشاورما، ملك الطاووق وإلخ. لكننا، مثل غيرنا من الشعوب، نصنع أساطيرنا ونصدّقها وطبعاً نعتزّ بها فخراً، لذلك فأبناء هذا الزمن محظوظون بما قدمته لهم العولمة، واختراعاتها الحديثة، من البرغر المخلوطة براحة الحلقوم والهوت دوغ الممزوجة مع عصير شراب التين وفوق هذا كله السوشيل ميديا التي اقتحمها نقاد الأكل، هؤلاء المعرفون بالأنفلوينسرز والبلوغرز الذين يسوّقون لكل هذه الغرابة في الطعام.
ها هي أسطورة جديدة ولدت ــــ الأسطورة هنا ليست صفة بل توصيف ــــ في زمن العولمة، ومن السوشيل ميديا، من سلالة المؤثرين في مجال الطعام والأكل تدعى دكتور فوود. «الدكتور» في هذه الحالة تعني المُختص وليس كما يحلو للعقل اللبناني أن يترجمها بالطبيب. لكن كيف هو «دكتور» ومن أين جلب الحكمة؟ لا نعلم. ما نعلمه مرهونٌ بما نراه فقط. المعنيون في الأمر، ومن يهوى عالم الأكل والشراب Food &beverage يقولون إنه نسخة رديئة عن غوردون رامزي. والأخير هو طباخ بريطاني مشهور بحسّه النقدي في الطعام، وبقدرته الإبداعية على إعادة تعزيز وإنعاش حركة المطاعم التي عانت ركوداً اقتصادياً والنهوض بأحوالها في حال سبق أن تعرضت لخسارات فادحة. يقول الدكتور فوود إنّ هذا المضمار هو من صلب اختصاصه أيضاً، نقول له بالتوفيق، ولكن مهلاً.
لا يقتصر حضور الأيديولوجيا علنياً، إنّما تُفضّل التغلغل بين التفاصيل


ففي الأيام الفائتة، جرى ما يشبه الفضيحة، حدث مفرط بتراجيكوميديته: دكتور فوود يأخذ كعكة جبن من بائع كعك مسنّ حقلاً لتجاربه. يفتح فمه، يسرع لاستكشاف كيف ستكون «قرشتها»، يمضغها قليلاً ومن ثم يلقي برأيه على البائع وليس على الكعكة، متّهماً إياه بالبخل، مع حركات جسد ونبرة صوت قادمة من مخارج حروف رخوة تحمل في طياتها الاحتقار والإهانة. وفّر هذا الحدث، الذي ليس هو علّة هذا المقال الأساسية، حماسة للتوغل في ماهية هذه الأسطورة بغية فهمها فمحاولة تفكيكها.
عودة على ذي بدء، إن المتابع لفيديوات الدكتور فوود يعلم أنّ ما يقول عنه نقد، ما هو سوى شخصنة. فعوضاً عن التحليل والتمحيص، يذهب نحو المباشرة والخلاصة السريعة المختزلة، متجاوزاً ما ينبغي أن يفعله، أي الإسراف في تقديم رأي منهجي في الطبق ليتوجّه بوضوح وقح إلى صانع الطبق. ربما الخروج عن المألوف والإذعان لشروط الشهرة تفرض عليه تبنّي أداء استعراضي، ويجعله حالةً راجت بموهبة فظاظتها، هكذا على قاعدة أن الغاية تبرر الوسيلة، إلا أنّ هذا لا يعفيه من شرك الإسفاف. فنحن أثناء مشاهدتنا فيديوات، ننتظر رأياً مسهباً في جودة الطعام، في ما هو ناقص أو زائد، عن القياس وحجم المقادير وعما هو معيب في النكهة، لكن الفيديوات قصيرة، وسرعان ما تنتهي بصفعة يلوح بها على الشاشة. بيد أن هذه الصفعة التي يعتبرها دكتور فوود نهفة أو مزحة وأيضاً إمضاء أو علامة تخصّه وتعرّف به، ليست في واقع الحال سوى دليل دامغ على افتقاره اللغوي، وعلى عجزه عن تناول الوجبة تناولاً دقيقاً بالمفردة والعبارة، لتأتي الصفعة كتعبئة شكلية لإجحاف يصيب المضمون.
وكونه أسطورة، فدكتور فوود يفقه في كل شيء. في الأكل والحلويات، في اللحمة والدجاج والسمك وأكثر. حين يطلب الطعام ليقدم رأيه الثمين، يبدأ تقييمه في الديليفري، للبلاستيك، والتعليب، لينتقل إلى الأكل. في ثوان معدودة ومنذ القضمة الأولى في الغالب، يقدم «نقده» حيال ما يأكله. على أن الدكتور فوود، وهذا ما نراه جليّاً، من حركة الكاميرا التي تركز على وجهه أولاً، وفي تركيزنا المنصبّ على وجهه ثانياً، يفكر من فمه فحسب، فيأخذ من المذاق معياراً، الأمر الذي يشبه الناقد الذي يأخذ من انطباعيته الخاصة حكماً.
والمتابع عن كثب لفيديوات الدكتور فوود، يرى أن العنف الذي مارسه على بائع الكعكة إنما هو عنفُ يمارسُه فعلياً في مهنته، وبدقة أكثر، يجري ذلك في كيفية تناوله للطعام وكيفية تعامله معه. تكشف دراسات الطعام عن العلاقة بين جغرافيا الغذاء والجسد، تحت مقولة «أنت ما تأكله». مما يقودنا تلقائياً إلى فهم الغاية من الأحجام الكبيرة التي يتناولها الناقد/ الإنفلوينسر. المسألة ليست متعلّقة بالشره إنما بالنهم الجامح كأداء همجي، كأن ما يربط الشفتين مع المصران هو أوتوستراد سريع، وسلوك ملتبس، يثير الاشمئزاز والاستفزاز، فيرى البعض في «مبالغته» نداءً لا بد من استجابته، فيهرعون إلى المطعم المذكور، فيما يراه آخرون منظراً يشبه لوحات الغروتيسك: ضخامة قبيحة تجلب معها ضحكاً مقهقهاً.

تكشف دراسات الطعام عن العلاقة بين جغرافيا الغذاء والجسد، تحت مقولة «أنت ما تأكله»


وفي جميع الأحوال، فإذا ما تعمّقنا في الموضوع خارج إطار الاستهلاك، على المرء أن يعترف بأن الطعام هو عملية أخلاقية، والأخلاقية ههنا لا تعني اليوتوبيا أو وضع منديل على الفخذ خدمةً للأيديولوجيا، بل معناها عدم الانجرار الغرائزي ليقوّى الطبق على آكلهِ. على هذا الأساس ومن منطلق أنثروبولوجي، يأتي الطبخ، أو ما هو مطبوخ، (موضوع المهنة عند الدكتور فوود) كحالة من التحضّر، فالذي يتحضّر بالطهي (الطعام المطبوخ) غير الذي يأتي بشكله الأصلي: خاماً أو نيئاً. وهو نتاج الإنسان المُتحضّر، والتحوّل هذا «من إلى» يذهب حتى على مستوى الخيال. أما في حالة الدكتور فوود، فتأتي العملية تقويساً. اللحمة المشوية تعود به إلى الحالة البدائية الأولى، تدفعه إلى إطلاق العنان للهمجية بإثارتها قوّة داخلية ما: عنيفة، غير واعية، وأرادت من خلال الأحجام المهولة التي تنهمها الاعتراف بأن هذا البطن كما الرغبة لا تنطفئ ولا تشبع. هكذا نراه في أحد فيديواته يخربش بأظافره ذهاباً وإياباً على «الستايك»، قبل أن يغرسها بداخلها مبتسماً فرحاً، تاركاً إيانا أمام تأويل بسيكولوجي، أن التعامل مع الستايك هنا بما هو تعامل مع اللحم قريب إلى علاقة وديّة تثير الرضى والإثارة، مثل تلك التي تجمع بين طرفين أو عاشقين، أو بمعجم فرويدي كأن الطعام هنا هو تعويضٌ عن الجنس. وفي تورّطه وانغماسه بهذا القدر من الانفلات، تضحى العملية برمتها أشبه بالبورنو. ففي حالته، يمتزج الخيالي مع الواقعي، الاستعراضي الذي يؤديه مع الحقيقي، فلا شيء عنده مصطنع بل يحدث كل هذا في لحظة واحدة تتيح له الخروج بشكلٍ عار وهو على علم بأنه سيحصد ملايين الإعجابات.
يمتد النهم والنهش عند دكتور فوود ليطال كل شيء. يخرج من المرئي المصوّر ليصل، بنهمه ونهشه، إلى غدّة المشاهد، المختبئة وراء حنجرته، التي تسيل عند رؤيته الطعام. هكذا يسيطر دكتور فوود على عقل المُشاهد، ويستولي على حواسنا، ويفعل فعله في العلن كما يفعله في السر، في العام كما في الخاص، فيخدعنا حتى يُصبح هو بشحمه ولحمه طبقاً نستهلكه برفق وعلى مهل، على عكس نهشه لنا.
ينهم دكتور فوود طعامه على الهواء، يمضغ الأيديولوجيا ويتركنا على حيرة إذا ما كان قد هضمها أو لا، ثم يعدنا بحلقة أخرى قادمة قريباً، ونحن كمشاهدين ومشاركين، لا نعي أنّ ما نأكله حقاً كل يوم، هو حاوية القمامة.