أصبحت الممثّلة البريطانيّة سوزان جونز نجمة أولى في التلفزيون البريطاني بعد تقديمها ثلاثة مواسم ناجحة من مسلسل «الدكتورة فوستر»، حيث لعبت دور الشخصيّة المركزيّة. لذا كان هنالك كثير من الترقّب لمتابعة مسلسها الجديد Vigil (ست حلقات، BBC - 2021) الذي انتقل بها من أجواء المؤامرات العائليّة والاجتماعيّة للطبقة الوسطى دفعةً واحدةً إلى محيط المؤامرات الدوليّة وصراعات الحرب الباردة، لا سيّما أنّه عُرض للمرة الأولى خلال أوقات الذروة في سهرة نهاية الأسبوع. تجري معظم أحداث المسلسل على متن ما يُفترض أنّها واحدة من غواصات نوويّة أربع ما زالت بريطانيا تحتفظ بها كسلاح ردع نووي مزعوم، رغم كلفتها البليونيّة التي تنفق من الأموال العامة في وقت يتوسّع فيه خط الفقر عبر أنحاء المملكة المتحدة ليبتلع ملايين البريطانيّين شهراً بعد آخر. إذ ترسل شرطة إقليم اسكتلندا – حيث القاعدة البحريّة للغوّاصات – المحقّقة (الإنكليزيّة في اسكتلندا؟) إيمي سيلفا (سوزان جونز) إلى الغوّاصة للتحقيق في حادثة مقتل أحد أعضاء الطاقم أثناء إبحارها. وبالطبع، لا يوجد هناك أيّ تبرير لاستبعاد شرطة البحريّة العسكريّة من تحقيق مماثل ـــ كما يُفترض تقليديّاً في مؤسّسة الجيش ــــ والاستعاضة عنها بمحقّقة من الشرطة المدنيّة. لكن تلك تظلّ مسألة ثانوية مقارنة بالخطاب السياسي الفجّ الذي يحمله المسلسل بداية من هويّات الشخصيّات الأساسيّة، وانتهاء بالجهة التي سنكتشف أنّها وراء سلسلة من الجرائم المتتابعة المُتربصة بطاقم الغواصة.
يجمع Vigil أمّة قوس قزح من أقصاها إلى أقصاها للتّوحد في الدفاع عن المصالح القوميّة (للإمبراطوريّة) البريطانيّة. فالمحقّقة سيلفا ومساعدتها سحاقيّات، وكابتن الغواصة أسود، والقائد المساعد للأسطول امرأة من أصول آسيويّة. كما يضمّ الطاقم شخصيات من أقليّات عرقيّة عدة، فيما تجمُّع دعاة السلام المعارض للأسلحة النووية الذي يعسكر قريباً من القاعدة البحريّة خليط من فوضويّين يساريّين وسكان كارافانات ومشرّدين. نتعايش في الحلقات الأربع الأولى مع توترات جانبيّة متلاحقة بين هؤلاء جميعاً، ولعبة قط وفأر مع القاتل، لكنّهم يتوحّدون بشكل أو آخر في الحلقتين الأخيرتين عندما يتبيّن أنّ مؤامرة دوليّة وراء جرائم القتل تجمع بشكل عجائبي روسيا إلى الصين، في هراء يليق بسخافات إنتاجات مرحلة الحرب الباردة.
جهد مدروس ومنظّم يرمي إلى تشويه صورة روسيا والصين


لم يكتف كاتب المسلسل (توم إيدج) بهذه البنية المهلهلة للمؤامرة على بريطانيا (العظمى)، بل ألقى علينا بكل البروباغندا التي تروّجها الطبقة الحاكمة: رغم أن الأميركيّين تسبّبوا في حادث قضى فيه طاقم مركب صيد إسكتلندي كان بالمصادفة في الجوار، إلا أنّه يتم اللجوء إليهم وقت الشدة كأخلص الأصدقاء باسم العضوية المشتركة في حلف شمال الأطلسي، والمخابرات البريطانيّة (MI6) التي تتجسّس على معسكر دعاة السلام تظهر لطيفة للغاية، فيما يقوم عميل روسي بقتل إحدى الناشطات بدون رحمة. أما معسكر المعارضين للتسلح النووي، فيفتقر للعقلاء: فهم إما فوضويون غريبو الأطوار أو فقراء بسطاء يسهل على العدو الروسي استمالتهم، أو أنّهم عملاء فعليون للمخابرات الروسيّة. وحتى النائب البرلماني المعارض للبرنامج النووي يقرر التزام الصمت بعد انكشاف الدور الروسيّ في المؤامرة. وعندما يفرّ أحد المتورّطين من ملاحقة الشرطة له، يحاول اللجوء إلى القنصلية الصينيّة. دور الصين في المؤامرة ليس معروفاً، ولكن هؤلاء «الأوغاد» وفق Vigil متورطون حتماً من حيث المبدأ، أما كيف ولماذا وعلى أيّ أساس، فليس مهماً عند BBC.
ومن الملاحظ أيضاً أن الإنتاج وقع في كثير من الأخطاء التقنيّة: فالغواصة النووية تعمل لأسباب غامضة على الديزل، وقبطانها وطاقمها غير أكفّاء، إلى درجة أنّه تكاد ترتطم بناقلة نفط عملاقة لم ترصدها أجهزة المسح الإلكترونية. ويبدو أن الزيّ الرسمي الذي ارتداه الطاقم ليس صحيحاً، وكذلك مدى ارتفاع السقوف داخل الغواصة، وغيرها من التفاصيل الفنيّة، مما جعل Vigil موضع تندّر للعاملين في القوات البحرية البريطانيّة، ومفتقداً للإقناع على هذا المستوى.
ينتهي المسلسل أقرب إلى كونه استعراضاً شاملاً لأيديولوجيا الإمبراطوريّة الحديثة من خلال الدراما: إن أمّة قوس قزح المتنوعة أعراقاً وألواناً وعقائد وتوجهات جنسيّة – وإن واجهت كل فئة منها على حدة تحديات وجوديّة متفاوتة - فإنّها متّحدة جميعاً في حملة قومية شاملة ضد خصوم الدولة، الأجانب (روس وصينيّون وإيرانيون...) منهم، والمحليّين على حدّ سواء. وفي هذه المعركة لا حلول وسطى، فإما أنت مع الوطن أو ضدّه. وهكذا يتم تغييب القضايا الطبقيّة لمصلحة الهويات الملتبسة، ويتم شحن المواطنين بمشاعر العداء لروسيا والصين من أجل ضمان دعمهم للسياسات الإمبريالية العبثيّة.


والحقيقة، أن هذا الخطاب السياسي السقيم يتكرّر بحذافيره يوميّاً في الإعلام البريطاني ونشرات الأخبار، وهناك جهد مدروس ومنظّم واحتيال إيديولوجي لا يمكن تجاهله لتشويه صورة روسيا والصين في ذهن المواطن البريطاني العادي ربما لتبرير ذلك الانخراط المبالغ به من قبل النخبة البريطانيّة في خدمة السياسات الأميركية تجاه العملاقين الصاعدين. وتدفع الجهات اليمينية الممسكة بالسلطة إلى الاستمرار في الإنفاق على ترسانة الأسلحة النووية العتيقة رغم كثرة حوادثها وانعدام الحاجة الاستراتيجيّة لها، ومعارضة معظم البريطانيّين – وفق استطلاعات الرأي – كأداة للتبجح الشوفيني الفارغ بعدما فقدت بريطانيا كل قيمة استراتيجيّة في صراع القوى العظمى وانتهت لاعباً من الدرجة الثانية وتابعاً مخلصاً، ككلب بولدوغ كما تكتب الصحافة البريطانيّة – للأميركية.
يندرج Vigil في إطار مدرسة فنيّة جديدة في الدراما البريطانيّة ربما بدأت بمسلسل Line of Duty (بداية من 2012)، وتالياً بـ Bodyguard (عام 2018) تعتمد أسلوب الإثارة المكثّفة في سرد الأحداث وتحفل بالتقلبات والمنعطفات ولحظات التوتّر الجامحة والمشاهد الخانقة، كما الدماء والجثث، ورجال الشرطة الفاسدين، والغراميّات الجامحة، بحيث يُصاب المشاهد بالفعل مع انتهاء الحلقة التلفزيونيّة بالشدّ العصبي والإنهاك من شدّة تسارع الإيقاع، ويصبح بالضرورة متعطشاً للمزيد في الحلقة التالية. وقد نجحت هذه المسلسلات تجارياً بشكل هائل بعدما استقطبت أعداداً قياسيّة من الجمهور لمتابعة حلقاتها الأسبوعية، وشارك الآلاف من المشاهدين في جدالات عاصفة بشأن تعاقب أحداثها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. إلا أنها بدون استثناء – بما فيها Vigil – حملت دائماً مضموناً سياسياً رجعيّاً وساذجاً يعكس أفكار وقيم الطبقة الحاكمة ويكرسّها، وافتقدت بشكل مزعج إلى أيّ معالجة سياسية أو اجتماعية أو حتى ثقافية ذات قيمة. أمر يجعل من المستحيل تقريباً أن يفكّر أحد في مشاهدة هذه المسلسلات مرّة ثانية مثلاً بعدما استنفدت إثارتها في المشاهدة الأولى، فكأنّها محارم ورقيّة مخصّصة للاستعمال مرّة واحدة فقط.

Vigil: على BBC
ومواقع إنترنت مختلفة