في السنوات العشر الماضية، غزت البرامج الساخرة القنوات المحلية. صبّ أغلبها في الإطار الاجتماعي، لكنّه ذهب صوب تسطيح القضايا وضخّ مزيد من العنصرية، إلى جانب الاسكتشات المرتكزة إلى الجنس والإثارة. برمجة ساخرة دخلتها السياسة بمنسوب طفيف، لتعود وتعزّز حضورها تحديداً عام 2017، عبر محتوى مختلف، يتّكئ على التثقيف السياسي واستخدام المنابر الساخرة لتمرير الرسائل السياسية والاجتماعية حول الأزمات التي يمرّ بها البلد. نتحدث هنا عن برنامجَي «هيدا تبع الأخبار» (الجديد- جاد غصن)، وBBCHI على قناة lbci. سرعان ما أُطفئت أضواء البرنامجين، نظراً إلى رغبة القنوات بتغييب الدور الفعّال لهذه البرامج، وترك المشاهد يتلقّى محتوى سطحياً لا يشغّل عقله في ما يدور من حوله. انتهت هذه المرحلة، ودخلت الشاشات عصر شدّ الأحزمة، جرّاء الأزمات المتلاحقة، التي أطاحت بالعديد من برامجها. لكن في الآونة الأخيرة، عدنا لنشهد طفرة برمجة مشابهة، تختلف هذه المرة جذرياً عما شاهدناه من قبل. برامج تدخلها السياسة بمعناها التحريضي والتنميطي، كاستكمال للمسار السياسي الداخلي والإقليمي الذي يطاول محور «الممانعة». بعد «انتفاضة 17 تشرين»، وتفجير المرفأ (آب/أغسطس ــ 2020) تحديداً، كنا أمام تحوّل سياسي صريح هذه المرة، يرمي إلى استهداف المقاومة وباقي المحور الذي يدور في فلكها، على رأسه «التيار الوطني الحر». شاهدنا ذلك مع تصاعد الحملات التحريضية على المقاومة، وأبلستها ومحاولة إقحامها في تفجير المرفأ، واستمرار اللعبة الإعلامية في التضليل والاجتزاء كما حصل مع حادثة «الطيونة». واستمرت هذه الحملات في قضية وزير الإعلام جورج قرداحي، التي تحوّلت إلى أزمة سياسية ودبلوماسية مفتعلة، انطلقت من تصريح تلفزيوني لقرداحي، لتصل أخيراً إلى اتهام «حزب الله» بـ «الهيمنة على لبنان». انتقلنا بعدها إلى محاولة فصل «حزب الله» عن الشعب اللبناني، وتحميله مسؤولية المقاطعة الخليجية. وما وسم «#الشيعة_ضد_حزب_الله» المزيّف إلا واحدةٌ من أدوات التحريض التي استُخدمت أخيراً.
إزاء هذه المشهدية التصاعدية والتحريضية، صرنا اليوم أمام برمجة، بعضها استُكمل من العام الماضي، بمواسم ثانية، وأخرى استجدّت على الساحة التلفزيونية، صبّت في الإطار السياسي الساخر. استخدمت هذه البرمجة الخطاب السياسي المباشر، والآخر المغلّف بغطاء الفكاهة، لتنفيذ أجندة واضحة، تحاول ترسيخ ما بدأ قبل سنوات وتصاعد خلال الأشهر الماضية. «تسلّحت» هذه البرامج المنتشرة على القنوات اللبنانية، تارة بالشخصيات المناطقية النمطية، وطوراً بلعبة الاجتزاء والتضليل. لا شك في أنّ الشخصيات المناطقية النمطية لطالما لازمت البرامج الساخرة، التي اختزلتها ضمن أنماط محددة، وحاولت تعميمها على هذه البيئات. لعلّ أبرز مثال على ذلك شخصية «الشيعي» الذي ذهبت اتجاهاته أكثر في السنوات الماضية، نحو الشاب الساذج الذي يعيش غالباً في البقاع، ويمتدح منافع الحشيشة. هكذا، برز عباس جعفر في هذا الإطار سواء أكان ضمن «شي. أن. أن» (الجديد) أم «بي. بي. شي» (lbci)، ضمن شخصيات أخرى كرّسها القائمون على البرنامج، تمثل باقي الطوائف اللبنانية، وبالتالي زعماءها السياسيين. كذلك برزت أمل طالب (لهون وبس-lbci)، وبقدر أقل خرجت شخصية «علي كرومبي» (mtv- «هيدا حكي»). شخصيات دارت غالباً في الإطار الاجتماعي الكوميدي، وفي التوظيف السياسي بشكل أقلّ. عاد هذا التنميط ليظهر أخيراً، مع برنامجَي «مأخر بالليل» (mtv)، و«شو الوضع؟» (الجديد)، بصيغ أخرى، أكثر فجاجة وخطورة أيضاً. مَن يتابع الحلقة الأولى من «مأخر بالليل» (إعداد وتقديم سلام زعتري)، يعتقد نفسه أمام محتوى يبتعد عن التخندق الطائفي والتصويب السياسي لناحية وقوفه على ما خلّفته تظاهرات «17 تشرين»، من «تنوّع» بين المكوّنات اللبنانية، وكسر للحواجز في ما بينها. والأهم هو استخدام شعار «كلن يعني كلن» الذي لا يسري بالتأكيد على مضمون برنامج زعتري الذي أدخل عليه هذا الموسم، زوجته جيسيكا أبي نادر، كما خصّص فقرة أخيرة من البرنامج للوقوف على التحليل السياسي والنفسي، ليحلّ موفق حرب مثلاً ضيفاً على البلاتوه! لكن، كعادته، لا يوفّر زعتري مناسبة إلا ويُقحم فيها التسييس بدءاً من طريقة توليفه لمضامين حلقاته التي تصوّب غالباً على «حزب الله» و«التيار الوطني الحرّ» وتتناسى البقية. هذه المرة أدخل شخصية جديدة إلى برنامجه وبالتأكيد أطلق عليها اسم «علي» للدلالة على الطائفة الشيعية. ولدى دخول «علي» الآتي من الضاحية، عمدت أبي نادر إلى تفتيشه، لربّما يحمل سلاحاً! توجه إليه زعتري بعدها، ساخراً: «سلاحه الضحكة»، عدا اتهام أبي نادر للشاب بـ«انكن محاصرين البلد»!. هكذا، ضمن دقائق قليلة، ملؤها الضحكات، مرّر البرنامج رسائل منمطة ومختزلة عن «الشخصية الشيعية»، تختصره هذه المرة، بأنه يحمل سلاحاً يرعب الناس، ويقهقه كالساذج، ويحمَّل البروباغندا السياسية المعادية، بعدما لازمته «الحشيشة». كذلك، يستخدم البرنامج أدبيات هذه البيئة وشعاراتها التي تخصّ «الكرامة» من خلال السخرية من هذه العبارة وتأليب هذه البيئة على «حزب الله» عبر تحميله مسؤولية الانهيار في القطاعات الحيوية في لبنان، ودعوة «بيئة الممانعة» لشرب «حليب الكرامة» لتغمض عينيها عن هذا الانهيار!
على مقلب «الجديد» حيث ظهر «الكوميديان» حسين قاووق ضمن برنامج «شو الوضع؟» (تأليف وإخراج محمد الدايخ)، كان الوضع مشابهاً نسبياً لـ «مأخر بالليل» مع منسوب أعلى من الاختزال والتصويب السياسي على «حزب الله». قاووق الذي اشتهر على السوشال ميديا بفيديواته الساخرة، وبحضوره على مسرح «ستاند آب كوميدي»، عاد ليظهر على شاشة تلفزيونية يخاطب جمهوراً أوسع، بشخصية «الشيعي» المعدم والخائف في الوقت عينه من ردة فعل بيئته على تصرفاته. الحلقة الأولى التي بُثت أواخر الشهر الماضي، بمشاركة قاووق تبدأ بتظاهرة في ساحة «الشهداء»، وترداد قاووق بطريقته المتهكّمة بأن الكل يعاني من «نفس الجوع»، وأن «الشيعة» ينزلون على الشارع، لكن مقابل المال! في الاسكتش عينه، يسأل قاووق المذيع «كيف سيعود إلى الضاحية بعدما شارك في التظاهرة وقبض مصاري؟»، في إيحاء بأن الضاحية تحوّلت إلى وحش كاسر، وخندق واحد، تمارس الترهيب بحق قاطنيها! وفي اسكتش آخر، يظهر قاووق أمام رجال مافيا، يسألونه عن تنفيذه جرائم بحق أشخاص ينتمون إلى أحزاب متنوعة. وفي معرض سؤالهم عن «الحزب ما غيره» أي «حزب الله» وكيف قتل قاووق أحد عناصره، يجيب بأنه لم يستطع أن يقتله، لأنه «مدرّع»، ولم يستطع إقناعه بأنه، أي قاووق، يناصر المقاومة ويخالف سياسته في الداخل. أخبر قاووق العنصر بأن «الدولار أصبح ألف وخمسمئة ليرة» فـ «مات سكتة قلبية»! لا شك في أن هذا الحوار يحمل دلائل خطرة، على مفهوم المقاومة والبيئة المحيطة بأنها مسلّحة ومدرّعة، وبأن ما يلهث خلفه المقاوم مجرّد حفنة من الدولارات، تُستثمر في سعر الصرف وتستفيد من انهيار الليرة.
هكذا، تتبدّى مشهدية تلفزيونية تستخدم البرامج الساخرة هذه المرة، ليس لتمرير النكات على اللهجات المناطقية، بل للانخراط في معركة شيطنة وقولبة بيئة المقاومة، وتستكمل ما تضخّه السياسة من تحريض وتشويه لصورتها.