منذ انطلاق موسمه الأوّل على منصّة نتفليكس في كانون الثاني (يناير) الحالي، تحوّل Lupin بين ليلة وضحاها، إلى ظاهرة ثقافيّة شاهدها أكثر من سبعين مليون مشترك خلال الشهر الأوّل. رقم قياسي للأعمال الأجنبيّة غير الأنغلوفونيّة. «لوبين» الذي يستوحي الشخصيّة الروائيّة الفرنسيّة الشهيرة للحرامي الظريف أرسين لوبين، يوظّف الحضور الكاريزميّ الهائل للسنغالي الفرنسي عمر سي ليقدّم وجبة ترفيه ممتعة من فنون الخداع والتنكّر. وجبة كتبها البريطانيّ جورج كاي، متبّلة بقصص غراميّة وعائليّة ممتعة، ومحمّلة بثيمات تحتمل معانٍ سياسية عميقة عن الصراع الطبقي والعنصريّة في المجتمع الفرنسي، من دون أن يسقط ولو للحظة في الخطابيّة المباشرة
بدون مقدّمات، وفي وقت قياسيّ تحوّل مسلسل «لوبين» (موسمان كل منهما في 5 حلقات) إلى ظاهرة ثقافيّة معولمة. نتفليكس الجهة المنتجة قالت إن أكثر من 70 مليوناً من المشتركين تابعوا الموسم الأوّل خلال الأسابيع الأربعة الأولى منذ انطلاقه (كانون الثاني/ يناير 2021)، عملياً لا أقلّ من 250 مليون مشاهد بالنظر إلى تعدّد مستخدمي حساب الاشتراك الواحد. رقم قياسيّ غير مسبوق في تاريخ المنصة الأميركيّة بالنسبة إلى الأعمال الأجنبيّة غير الأنغلوفونيّة. ويقدّر عدد من شاهدوا المسلسل بموسميه لغاية الآن، بنصف مليار مشاهد، فيما هناك موسم ثالث قيد الإنجاز، ضمن مواسم عدة يتم التخطيط لها. هذا النجّاح الفنيّ والتجاري معاً لـ «لوبين» جاء نتيجة تقاطعات عبقريّة جمعت على صعيد واحد قصّة كتبها البريطاني جورج كاي بأناقة وذكاء، مستوحياً عالمها من أجواء روايات الحرامي الفرنسيّ الظريف «أرسين لوبين»، مع الحضور الكاريزميّ الهائل للسنغالي/ الفرنسيّ عمر سي، وقدرات رأس المال الأميركيّ الجبّار. المنتج النهائيّ بمثابة وجبة ممتعة من فنون الخداع والتنكّر، متبّلة بقصص تقاطعات غراميّة وعائليّة ممتعة، ومحمّلة بثيمات خفيّة (تعتمد على خلفيّة المشاهد أساساً) تحتمل معانٍ سياسيّة عميقة عن الصّراع الطبقي والعنصريّة في المجتمع الفرنسي، لكن دائماً من دون أن يسقط العمل ولو للحظة واحدة في فخّ الخطابيّة المباشرة. «لوبين» في الواقع كان فكرة عمر سي، وكُتب من أجله شخصيّاً. إذ أن نتفليكس الأميركيّة التي التقطت سريعاً تلك الطاقة الكامنة في موهبته وحضوره المحبب والمؤثر في الفيلم (الفرنسيّ) Intouchables وتالياً في أعمال هوليووديّة كـ «جوراسيك بارك» و«أكس مان»» عرضت عليه فرصة تعاون مشترك مفتوحة لإنتاج مسلسل يؤدي فيه أيّ شخصيّة يختارها. وفي مقابلة مع الصحافة لاحقاً، قال: «لو كنت بريطانياً، لقلت جيمس بوند، أيقونة أعمال الجاسوسيّة البريطانيّة الشهير. لكنني فرنسي، فاخترت شخصية لوبين. بانتشارها الواسع تبدو كأنها نسخة فرنسيّة محليّة من بوند». الذّراع الأوروبيّة لنتفليكس كانت قد عثرت بدورها على موهبة استثنائيّة أخرى: الكاتب التلفزيونيّ البريطاني جورج كاي الذي لفت الأنظار بتحفته «كيلينغ إيف»، وكانت تبحث عن مشروع فكرة لتكليفه بها. كاي الذي لا يتحدّث الفرنسيّة ولم يعرف عمر سي من قبل، ولا حتى أرسين لوبين، قبل بالمهمّة على سبيل الفضول الثقافي المموّل جيداً. وهكذا نضجت شخصيّة أسان ديوب: حرامي شاب لطيف ذو أساليب مذهلة للتنكّر والخداع، يتتبع بهوس أساليب شخصيّة أرسين لوبين وفق سلسلة الروايات الشعبيّة الفرنسيّة الشهيرة. عندما لا يكون - وهو ساحر النساء - في خضم توترات علاقاته الغراميّة والعائليّة الفاشلة، يكرّس ديوب وقته ومواهبه لمحاولة الانتقام وتصحيح ميزان العدالة ممن تسبّب في تشويه سمعة والده وانتحاره عبر سرقة المجوهرات ذاتها التي اتُهّم والده زوراً بسرقتها قبل 25 عاماً أثناء عمله كسائق خاص، وعوقب من أجلها مظلوماً بالسجن. غريم ديوب، هوبرت بيلليغريني (يلعب دوره هيرفي بيار)، نموذج كلاسيكيّ لشخصيّة الرأسماليّ الجشع والثري الأرستقراطيّ الواسع النفوذ والتأثير، والقادر على ارتكاب كل الموبقات من أجل تعظيم أرباحه وتوسيع حجم ممتلكاته.
منتج ثقافيّ معولم وهجين وقصّة يمكن إسقاطها في أيّ إطار ثقافي واجتماعي


الاشتباك متعدد الأشكال بين الغريمين بيلليغريني – ديوب يبدو كأنّه على السطح كما صراع مثاليّات بين ظالم ومظلوم. لكنّه صراع يخفي في جيوبه مستويات أخرى من التدافع الاجتماعي في فرنسا: بين الطبقة البرجوازيّة الفاحشة الثراء والمعدمين، بين الأغلبيّة البيضاء والأقليّات العرقيّة، وبين ثقافة الأجيال القديمة وتلك الجديدة، وهذه القراءات كلّها إمكانيّات مفتوحة للجمهور المعولم، وكلّ يطالعها وفق خلفيته الاجتماعيّة والثقافيّة، لكنّها بالتأكيد لا جذريّة ولا مباشرة، وتفتقد للإقناع عند محاولة محاكمتها أو نقدها. وخلاصة موقف ديوب السياسيّ هو الغضب من إساءة استخدام السلطة، لا منطق السلطة ذاتها. ويتماهى ذاك مع حقيقته الطبقيّة الجديدة، فهو نفسه لم يعد سنغالياً مهاجراً يعمل في مهنة هامشيّة مثل أبيه، وإنّما شاب فرنسي الثقافة ينتمي لأعلى منسوب الطبقة الوسطى، خبير في جرائم الإنترنت ويستخدم أحدث التقنيّات للقرصنة واختراق الدوائر التلفزيونية المغلقة كما تشغيل الأجهزة الذكية والطائرات بدون طيار، ومتزوّج من فرنسيّة (كلير التي انفصل عنها، وابنهما راؤول، يعيش مع أمّه)، ويحتفظ بمقرّ سريّ كما لو كان الأرستقراطي الأميركيّ باتمان، وليست لديه مشكلات ماليّة في الإنفاق الباهظ على عملياته الاحتياليّة. حكايا المسلسل معتمدة على شغف مهووس وغير عقلانيّ يأكل قلوب كل أبطاله. ديوب يحلم بالانتقام وإعادة الاعتبار لوالده، بيلليغريني يقتله الجشع، جولييت - ابنة بيلليغريني - يؤرقها الشبق لحبيب الطفولة، الشرطي المنبوذ من رفاقه يوسف غيديرا (سفيان غيراب) مولع بروايات أرسين لوبين، كلير تريد أسرة نموذجيّة، وهكذا. وكثيراً ما يتم استدعاء الماضي عبر «الفلاش باك» لتفسير الحاضر، فيما يبدو ديوب دائماً على بعد نقلتين من قدرة الشرطة الفرنسيّة على مطاردته.
مع ذلك كلّه، فإن «لوبين» ليس عملاً فرنسيّاً بالمعنى المألوف، بل هو منتج ثقافيّ معولم هجين، صديق للعائلة بمجملها، يتألّف من مكونات عدة لقصّة كان يمكن إسقاطها في أيّ إطار ثقافي واجتماعي غير فرنسا من دون أن نفقد الكثير. السيناريو كتب أصلاً بالإنكليزية - قبل ترجمته بتصرّف لغويّ وثقافيّ إلى لغة موليير. وفي صيغ الخداع التي يتتبعها، يبدو أقرب لشرلوك هولمز البريطانيّ، وسي نفسه أصبح ممثلاً أميركياً أكثر مما هو ممثل فرنسيّ، ويعمل الآن من لوس أنجلوس لا باريس، فيما الشركة المنتجة أميركيّة محض. وهكذا فإن «لوبين» الذي نشاهد وكأنّه بضاعة ملفّقة، أقرب إلى وجبة ماكدونالد أميركيّة سريعة مُنحت نكهة خلطة فرنسيّة، ويقدّمها موظّف مهاجر أسود البشرة لعائلة هولنديّة تتجوّل في سنغافورة.
بين لوبين الإلهام، وسي الممثل النّجم، وكاي الكاتب الموهوب ورأس المال الأميركيّ وهيمنته على وسائل الإنتاج والتوزيع الرقمي، خلقت نتفليكس في مغامرتها المنسوبة إلى فرنسا هذه ما يشبه منجم ذهب واعداً على نسق فرانشايز «جيمس بوند» البريطانيّ، وهي حتماً لن تدعه يفلت منها بسهولة ولا في أيّ وقت قريب.

lupin على نتفليكس