لأن المسألة معقّدة لغير المختصّين بالعهد القديم، ربما ينبغي شرح الفارق بين القراءة النقدية للتوراة على تنوع شعابها، وبين القراءة الفيلولوجية التي بدأها الصليبي وتابعها تلامذته ولا سيما زياد منى. تذهب القراءة الأولى، وهي القراءة النقدية، إلى داخل التاريخ، ولا تكتفي بحدوده الجغرافية، حيث إنها حتى عندما تعتمد في جوانب منها على الفيلولوجيا، فإن من مهامها الأساسية نزع الأثر اللاهوتي عن الكتاب المقدّس، وتفسير التناقض بين الأسفار، وتالياً إعادتها إلى التاريخ بوصفها كتباً بوضعها الحالي خارج التاريخ. أمّا منهج صليبي ومنى وفاضل الربيعي وغيرهم، فرغم أنه يطلب معرفة موسوعية بالكتاب المقدس، لفهم رموزه وشخوصه ومقارنتها بحدود جغرافية غير الحدود التي نعرفها، إلا أنه يبقى قراءة غير نقدية بالمعنى الدقيق للكلمة، لأنه لا يشكك في حقيقة النصوص وصوابية ترتيبها، بل يشكك في فهم التاريخ ضمن الدائرة الجغرافية وحسب. والفكرة الأخيرة، قد تُفهم من قِبل كثير من الباحثين بأنها قبول للتاناخ ككتاب تاريخ يمكن اعتباره مصدراً، وهذا ليس شائعاً أو مسوّغاً في دوائر نقد الكتاب المقدّس.
رغم كلّ شيء يسير زياد منى وفق منهج واضح. برأي كثيرين هذا يجعل البحث متيناً. غير أنّ كثيرين أيضاً سيسألون عن صوابية المنهج بالذات لهذا البحث بالذات، هذا إذا استثنينا النقد البنيوي الذي يستحسن إحاطة أشمل خاصةً في دراسة شائكة إلى هذه الدرجة. من الإيجابيات أن المنهج الفضفاض الذي يعمل منى على أساسه، سمح له بتخطّي عسير إلى الحدود الطبيعية لليمن كما نعرفه اليوم. وهذا ما سمح له أن يدقق في فرضياته خارج حدود المكان، واستفاد من حدود اللغة الواسعة، ولا سيما في مسألة سبأ، أثناء محاولته عرض «المعضلات المنهجية» في بحثه. لكن الاكتفاء بالمنهج الفيلولوجي يجعل التاريخ مشبعاً بالأفخاخ، التي يقع البحث فيها، لاستحالة التحليل فقط بواسطة اللغة. ومن أبرز الأمثلة وأوضحها، عندما يجعل منى شعوباً من العرب أثناء بحثه عن هوية شعوب العهد القديم كما تمرّ في التوراة. وليست المشكلة في استبعاد الأدوات الاثنوغرافية استبعاداً لا يمكن تفسيره بقدر ما أن الاستدلال إلى العروبة كان بحصر الترحال بالعرب وحدهم.
يعرف التفاصيل والأسماء والتوراة إلى درجة تخوّله الحديث عنها
هذا الاستدلال لا يأخذ في الاعتبار خريطة المجتمعات في ذلك الوقت، خاصة العبرانيين الذين كانوا من أهل الترحال. والإشارة إلى العروبة من هذه الزوايا، في غاية السلبية، وإن كانت غير متأثرة بالدعاية الاستشراقية القوية، فهي تخرج البحث من التاريخ، باستبعاد أجزاء منه لمصلحة تأكيد الفرضيات عنوةً. يحدث هذا مثلاً في عرضه لمسألة المسادا وجبلها، التي تعدّ نموذجاً حقيقياً بالنسبة إلى جيل الرعيل المؤسّس للاستعمار الصهيوني في فلسطين، حين يشير إلى «استعارتها» من قِبل الحركة الصهيونية من التاريخ السحيق، حيث كانت مجرّد معركة أنهى فيها الرومان تمرّد اليهود. والاعتراف بالجبل كعامل أركيولوجي لا يمنع البحث من الغرق في التحليل الفيلولوجي. وقد يباغت البحث القراء أحياناً برفضه بعض المسلمات. من الانتقادات الكثيرة التي وجهت إلى البحث، من قبل مهتمّين بنقد التوراة، كان رفضه تسمية الساحليين الشاميين بالكنعانيين، لأنهم برأيه لم يطلقوا هذا الاسم على أنفسهم، بل كانوا يتكنون بأسماء مدنهم. وبالفعل، بمراجعة نص منى، يتّضح أنه بدلاً من تقديم بديل عن رفض الكنعانية كنعتٍ بدلالة إثنولوجية، يتفادى البحث أيّ شرح، ويكتفي بتقديم بديل شائع، ولا سيما أن جميع سكان الأرض يُنسبون إلى مدنهم. لكن هذا النسب لا يعفيهم من الأنساب والأوصاف الأخرى. تبعاً لهذا المنهج الذي يتسرّع في التحليل، كان الموريسكيون ليكونون أهل قشتالة والمدن الإسبانية الأخرى مثلاً!
ما هو مؤكّد، أن ما قام به الصليبي من جهد كبير ينسحب على عمل زياد منى. منى نفسه يقول إنه يرتكز إلى موضوعة الأستاذ الصليبي، أي أنه لا يطرح نقاشاً جديداً بل يحاول استكمال التشكيك الذي بدأ في القرنين التاسع عشر والعشرين بالشرح التقليدي للتوارة. أما انحسار البحث في الجغرافيا، حتى رغم صعوبة تحميله أبعاداً سياسية لقلة الدلائل التي توفرها اللغة كمنهج وحيد، فلا يسقط عنه صفة التميّز، والاعتراف لصاحبه بالجهد الطويل في محاولة تفنيد الأصول الجغرافية للكتاب وتفسيرها.