رحل أول من أمس قائد الأوركسترا الإيطالي كلاوديو أبادو (1933) عن عمر 80 عاماً. وإذا كان غياب الشخصيات المهمّة عن عمر كبير خسارة معنوية في مجالها، فإنّ رحيل أبادو يُعتبَر خسارة حقيقية لعالم الموسيقى، إذ كان لدى القائد السابق لـ«أوركسترا برلين الفلهارمونية» ما يقدِّمه من تسجيلاتٍ وإطلالات حيّة أمام الجمهور الكبير الذي أحبّه وقدّره. من جهة ثانية، فقد الموسيقيون وتلامذة قيادة الأوركسترا معلماً فرض رؤيته الموسيقية الخاصة بهدوء تمسّك به طوال مسيرته.كلاوديو أبادو ليس أهم قائد أوركسترا في التاريخ. لكنه شخصية مرموقة أثرت في الحياة الفنية وسيذكرها محبو الموسيقى الكلاسيكية طويلاً. في مجاله، حجز أبادو مركزاً بين الأوائل (راجع المقالة إلى يسار الصفحة). هو من العمداء على مستوى العالم، وشاهد على زمنٍ كانت فيه المنافسة الكبيرة في قيادة الأوركسترا والعمل الجاد، حيث كان الجمهور، في الجهة الأخرى، متطلباً وخبيراً، يحاسب من دون تهاون، لكن بحق.

إنه من الجيل الذي خدمه الزمن. حظيت إنجازاته بأفضل ما يتيح إيصالها إلى الجمهور، أكان على مستوى الصوت (تطور تقنيات التسجيل منذ أواخر الخمسينيات) أم الإنتاج والتسويق وغيرها من العناصر.
ولد كلاديو أبادو في بيت موسيقيّ وضعه منذ صغره في أجواءٍ ملائمة لتبلور شغفه وموهبته. أبوه كان عازف كمان وقائد أوركسترا، فلعب دور معلمّه الأوّل. شقيقه مرتشيلو أصبح أيضاً مؤلفاً وقائد أوركسترا معروفاً نسبياً. من عائلته برز كذلك روبرتو أبادو (ابن شقيقه مرتشيلو) في المجال نفسه. ربح كلاوديو الجائزة الأولى في مسابقة مرموقة في قيادة الأوركسترا وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ما أعطاه دفعاً قوياً في بداياته (1958). لاحقاً ذاع صيته في إيطاليا، ثم أوروبا والعالم كقائدٍ تميِّزه سياسة عدم تهميش أي من الحقبات، إذ له تسجيلات لباخ وموزار وبيتهوفن وشوبرت ومندلسون (تسجيل كامل ومرجعي للسمفونيات الخمس) وبرامز وتشايكوفسكي ومالر، وكذلك لمؤلفي القرن العشرين والمعاصرين من برتوك وسترافينسكي وبروكوفييف إلى شونبرغ والطليعيين الإيطاليين مثل لويدجي نونو وبرونو ماديرنا وغيرهما. وبالإضافة إلى تغطيته الحقب الموسيقية، استطاع أبادو ترك بصمة في فئات الأعمال التي تقع ضمن اختصاصه، من الأعمال الأوركسترالية إلى الأعمال الغنائية الدينية والأوبرا.
على أثر رحيل هربرت فون كارايان، القائد التاريخي لـ«أوركسترا برلين الفلهارمونية»عام 1989، تم انتخابه لخلافته، علماً بأن اسمه لم يكن مطروحاً بقوة. إنه المنصب الذي يطمح إليه كل عامل في هذا المجال. هذا الحدث شكّل أبرز محطة في مسيرة أبادو من دون منازع. أواخر التسعينيات، ظهر المايسترو بهيئة مخيفة أمام الجمهور الذي تساءل عن سبب فقدان الرجل المهيوب لوزنه. فقدانٌ بدا واضحاً ومقلقاً. أتى الجواب سريعاً، إذ أعلن أبادو عن إصابته بسرطان المعدة وعن نيّته تسليم «برلين» لزميل يتمتّع بالصحة الكاملة، فترك منصبه، عام 2002، لصالح الإنكليزي سايمون راتل (الذي أعلن أخيراً عن نيّته إنهاء عقده عام 2018).
يُعتَبَر كلاوديو أبادو قائداً نشيطاً جداً، وبالتالي غزير الإنتاج وكثير المشاريع. له عشرات التسجيلات، بعضها ممتاز، وبعضها الآخر عادي (أحياناً بفعل مقارنتها بتسجيلات لا يمكن تخطيها). قاد أهم أوركسترات العالم وأسس بعضها، مثل «أوركسترا مهرجان لوسيرن» التي أنجز معها تسجيلات عدة، بعضها مصوّر (أبرزها حفلة بعنوان «ليلة روسية» قاد فيها سترافينسكي وتشايكوفسكي، بالإضافة إلى الكونشرتو الثاني للبيانو لرخمانينوف برفقة عازفة البيانو الفرنسية الحسناء إيلين غريمو).
لإيطاليا صيتٌ مرموق في قيادة الأوركسترا. الأول زمنياً كما في القيمة يدعى أرتورو توسكانيني (1867 ـــ 1957). أما أبادو فهو من الأهم في تاريخ بلاده، ومع رحيله تنتقل رأس الحربة الإيطالية في هذا المجال إلى ريكاردو شايّي (1953) تقريباً من دون منازع.