كثيرة هي الصعوبات التي تواجهها الدراما التلفزيونية المصرية مثل انحصار موسم المشاهدة بشهر رمضان فقط، والتنافس المحموم على رقعة وجود على الشاشة وعلى حصة من الإعلانات، والبحث عن موضوعات تلائم التطورات الاجتماعية والمطالبات السياسية والتغيرات التي طرأت على أذواق المشاهدين، وارتفاع الأسعار الذي رفع كلفة أي عمل بمعدل الضعف على الأقل، ومنافسة الإنترنت الذي يجتذب المزيد من المشاهدين كل يوم…. في الوقت الذي تواجه فيه الدراما كل هذا وأكثر، كأن كل هذا لا يكفي، تخرج تلك النبتة الشيطانية المسماة «لجنة الدراما» التابعة لنبتة «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بورقة أطلقت عليها «معايير الدراما» التلفزيونية والإذاعية. قام المجلس الذي يرأسه الصحافي مكرم محمد أحمد، بإرسالها إلى القنوات الفضائية، لتطبق ما جاء فيها على الأعمال التي تعرضها في رمضان.هذه المعايير المضحكة، بقدر ما هي مخجلة، لا أثر لها سوى إطلاق مزيد من الغازات المسممة في أجواء الثقافة والإعلام المصريين، اللذين يعانيان بالفعل من حصار رقابي ومزايدات وطنية غير مسبوقين.
من هذه المعايير، ولاحظ أنها أرسلت للفضائيات قبل أيام من رمضان: «التركيز على الموضوعات الاجتماعية التي تهم الأسرة المصرية، وتقديم النماذج التي تستحق تسليط الأضواء عليها، سواء من ذوي القدرات الإبداعية في المجالات المختلفة أو من ذوي القدرات الخاصة التي استطاعت أن تتحدى الإعاقة. كذلك التركيز على النماذج التي يتم تكريمها في مؤتمرات الشباب، حيث يمكن الاستعانة بسيَرهم الذاتية بشكل فني داخل الأحداث الدرامية، ما يعطي المثل الأعلى والقدوة ويدفع الأمل في نفوس الشباب. التوقف عن تمجيد الجريمة باصطناع أبطال وهميين يجسدون أسوأ ما في الظواهر الاجتماعية السلبية التي تسهم الأعمال الدرامية في انتشارها.
ضرورة إفساح المجال لمعالجة الموضوعات المرتبطة بالدور المجيد والشجاع الذي يقوم به أفراد المؤسسة العسكرية ورجال الشرطة في الدفاع عن الوطن. من الأمور المستهجنة، استخدام القوالب الجاهزة المستوردة (التركي، الإسباني، الهندي…) وتكييف الموضوعات والشكل وفقاً لهذا القالب، ما يؤدي إلى الحد من ملكة الإبداع المصرية وتكريس حالة التغريب الثقافي الذي قد يخفي خلفه صراع القوميات ويغذيه في نفوس المشاهدين، ليظهر في ما بعد بشراسة على أرض الواقع»!
هذه «المعايير» وغيرها تكشف طبيعة اللجنة التي يزعم أعضاؤها طوال الوقت أنها ليست رقابة، كما يقول رئيسها المخرج محمد فاضل في تصريحاته الأخيرة.
تناقض فج بين تصريحات أعضاء اللجنة ومعاييرهم وقراراتهم التي تتضمن فرض عقوبات مالية ضخمة، تصل إلى 250 ألف جنيه على أي قناة تعرض مشهداً يتضمن لفظاً «خارجاً»، أو تبدأ بعرض عمل لم ينته كتابة نصف حلقاته أو حصوله على تصاريح الرقابة والنقابات الفنية المختلفة، أو تشتري أي عمل بمبلغ يتجاوز 70 مليون جنيه!
أغرب ما في الأمر أن النظرة الموضوعية للإنتاج الدرامي المتوقع هذا العام تبيّن أن صناع المسلسلات يستوعبون «الدرس» جيداً، وينفذون التعليمات العليا من دون كثير من الاعتراض أو الجدل، كما تثبت الملاحظات الآتية:
رجال الشرطة حاضرون بقوة كأبطال رئيسيين في العديد من الأعمال. هذا العام، يعرض جزء ثان من مسلسل «كلبش» الذي يؤدي فيه أمير كرارة دور ضابط يكافح الإرهاب. حتى محمد رمضان، الذي اعتاد لعب دور البلطجي والمجرم، فأثار ما أثاره من آيات إعجاب الشباب وغضب الكبار، يظهر هذا العام للمرة الأولى في دور ضابط شرطة صعيدي في مسلسل «نسر الصعيد» ( ﺗﺄﻟﻴﻒ محمد عبد المعطي، ﺇﺧﺮاﺝ ياسر سامي). الأجواء نفسها يدور فيها مسلسل «طايع» لعمرو يوسف وعمرو عبد الجليل، وحتى عادل إمام يتخلى عن أداء الشخصيات المضحكة ليؤدي دور صحافي كبير يتصدى للفاسدين.
الوجه الآخر من دراما الخير والشر، تمنح فيها البطولات للأبطال السلبيين Anti- heroes مثل «أبو عمرو المصري» الذي يؤدي فيه أحمد عز دور إرهابي، أو «رحيم»، وياسر جلال دور رجل أعمال فاسد أو «أفراح إبليس 2» الذي يواصل فيه جمال سليمان أداء دور رجل الأعمال الصعيدي الفاسد... كلها مصاغة بطريقة الرحلة إلى الجحيم، التي ترصد سقوط الشخصية الرئيسة بسبب شرها.
لا أعمال هذا العام تستفز المحافظين بسبب جرأة ألفاظها، أو عري أكتاف وسيقان بطلاتها، أو عنف معاركها. كل المواد معقمة وصحية ومطبقة عليها معايير الجودة. لكن، هل سيكفي هذا ليهدأ المتربصون الذين يلقون بكل بلاوي المجتمع على السينما والتلفزيون؟ أم سيواصلون الهجوم على الفنون ووسائل الإعلام؟!