باريس | لم تمهل الحياة الشاعر الجزائري مالك علولة (1937 ـ 2015) إلا 11 يوماً بعد رحيل طليقته آسية جبار. الشاعر البدوي كما أحبّ تلقيب نفسه، انطفأ وهو يكتب خلال إقامة أدبية في برلين، على أن يوارى الثرى اليوم في وهران، بناء على وصيته. أوصى صاحب «تمارين الحواس» بأن يدفن إلى جانب أخيه الكاتب المسرحي عبد القادر علولة، الذي اغتيل عام 1994 خلال العشرية السوداء التي عرفتها الجزائر.
انطفأ صاحب «مدن» بعد عقود أمضاها في الكتابة والعمل السياسي، والمنفى الاختياري في باريس بدءاً من عام 1967. من قرأ له، يتحدّث عن كتابة متطلبة، ولغة أصيلة وخاصة جداً. لم يكتب للشاعر الانتشار كطليقته آسيا جبار، التي رحلت قبل أسابيع، وكانت ممن يطلق عليهم تسمية «الخالدين»، أي أعضاء «الأكاديمية الفرنسية».
كتب على نحو «سري»، ولم تتعرف إليه إلا قلة نادرة من الأجيال الجديدة في بلده الجزائر والبلدان المغاربية، لكنّ مواطنيه يدركون أنه من مؤسسي الكتابة الشعرية في البلد. برغم أنّ علولة درس في واحدة من أرقى المدارس الفرنسية أي  l’école Normale supérieure  في باريس، وأن حبّه كان كبيراً لديدرو، الذي أنجز عنه أطروحة الدكتوراه في «السوربون»، ظل هواه للبادية التي شهدت سنينه الأولى. «عْرُوبي» حتى النخاع... انتماء جاهر به ودافع عنه في الحياة وعبر شذرات من الكتابة. ولد في قرية عين البرد، التي تبعد بضعة أميال عن سيدي بلعباس. طفولة جعلت قدميه ثابتتين في الأرض برغم أنه سيغادرها بعد ذلك إلى وهران. مدينة كانت خطوته الأولى تجاه الحداثة.
جزائر تلك المرحلة المضطربة سياسياً في خضم النضال من أجل التحرر، لم تمنع أبناء العائلة الفقيرة من اللجوء إلى المدرسة التي كانت حينها أداة للولوج إلى طبقات اجتماعية أخرى.
الحفاظ على تاريخ الجزائر دفعه إلى نشر كتب مختلفة عن الصورة

أخوه الأكبر عبد القادر اختار المسرح، بينما وجد هو نفسه في الشعر. شارك في المسيرات المطالبة بالاستقلال والحراك الشهير سنة 1957. درس الأدب في «جامعة الجزائر» قبل الانتقال إلى فرنسا حيث أعد دكتوراه عن ديدرو. بعد أربعة عقود من ذلك، وخلال تقديم إعادة إصدار كتبه لدى دار «برزخ» الجزائرية، قال ساخراً إنّه كان «في حملة شعرية»، كما لو أنه يجيب على بروباغندا الاستعمار المروّجة للاحتلال على أنه «حملة حضارية». هذا الوعي بأن الشعر أداة للتغيير لم يأت متأخراً. ها هو يكتب عام 1966 في العدد الثالث من مجلة «أنفاس» المغربية، مقدماً نصوصه الشعرية «مدن»: «أؤمن بشعر هو أساساً ثوري. بشعر يُغيّر الحياة». التقديم حمل بياناً لما سيكتب فيما بعد: نهاية منفى الشعر المغاربي المكتوب بالفرنسية. القطيعة مع ديماغوجية الشعراء التقليديين والشعر السهل. «أنفاس» التي مثّلت حينها واحداً من أصدح الأصوات الثورية والتحررية في الثقافة المغاربية، نشرت ديوانه «مدن» عام 1969.
بعدها بعشر سنوات، نشر ديوان «مدن، وأماكن أخرى» (1979) لدى دار «كريستيان بورجوا» الفرنسية. وتناسلت الكتب، مقارعة لإرث الجزائر، كـ «الحريم الكولونيالي» (1981) و»وولائم المنفى» (2003). الشاعر المقلّ نشر أيضاً دواوين «مقاييس الريح» (1984) و»الولوج إلى الأجساد» (2003). الحفاظ على تاريخ الجزائر دفعه إلى نشر كتب مختلفة عن الصورة، كأيقونة لتاريخ منسيّ للمدن الجزائرية.
بهذا، اتخذ المكان جزءاً مهماً من العملية الإبداعية والبحث الشعري لدى علولة، الذي استقر منذ نهاية الستينات في باريس.
قصيدته، كما يقول «لم تكن إلا تساؤلات تدفع تجاه سؤال أساسي هو: لم الكتابة في هذا الليل الذي يحيطنا بالهشاشة الأكبر؟» لاختبار العالم، والانتقال بين المنافي، لترك قصيدة هي صدى لكل هذه الحياة، بين القرى والمدن، وأماكن أخرى.