أنجلو البعيني كثيراً ما جاور مفهوم المواطنة «المعجزة الإغريقيّة»، تلك الفكرة التي رسّخها برتراند رسل في توصيفه لعقلانيّة «الغرب» السياسيّة في أزمنته الحديثة. من هنا، تنبع الضرورة العلميّة لكتاب يبرهن على أن «انتصار المواطن»، اليوم، ليس انبثاقاً من عدم، بل نتيجة حتميّة لمسيرة ملأى بالألم والأمل والثورات، في كلّ لحظة طالب «الهامش» بحقه في متن دستور. في كتابه «انتصار المواطن» (دراسات عراقيّة ــ ترجمة سليمان الرياشي)، يطرح بيار روزانڤالان مسألة ثورة الهامش للانخراط في المجتمع. إذ كان على الفرد أن يجهد على أكثر من جبهة. الأولى فلسفيّة، يؤكّد بها انتقاله من الطبيعة إلى الفرد. الثانية قانونيّة، إذ ينتقل معها من حالة اللاتمثيل إلى الحق المشروع بالتمثيل السياسي. الثالثة استقلاليّة، يقطع معها كلّ صلة/ تبعيّة بأيّ سلطة ليقدّم نفسه كياناً قائماً لذاته.
في القرون الوسطى، كان الشعب المؤلّف من «التعساء المكرّسين للأعمال المضنية، المُنتِجين لمتع الآخرين» خارج التمثيل السياسي. ويربط المؤلّف تاريخ «انتصار المواطن» بفردنة المجتمع التي تأصّلت مع الثورة الفرنسيّة (1789): فمن وجهة النظر القانونيّة، ظهر الاقتراع العام كرهان اجتماعي يكمن في اندماج المهمّشين واعتراف «النخبة» بهم. بدأ ذلك في القرن الثامن عشر، عندما لم تعد الكتل تُعتمد قاعدةً للتمثيل السياسي، وبلغ الأمر ذروته عام 1944 مع وصول النساء إلى صناديق الاقتراع. أما من وجهة النظر المعرفيّة، فقد جرى الاعتراف بصلاحية الاقتراع العام كإجراء أمثل من أجل اتخاذ القرار.
في الصفحات الأخيرة، يحيلنا الباحث على أنّ التاريخ الفكري للاقتراع العام قد انتهى نظريّاً، لكنّه ينبّه إلى أنّ «تاريخ الديموقراطيّة ما زال عند تمتماته الأولى». إذ هو على موعد مع انبثاق «سلطة الإنسان»، الإنسان المجرّد من أي صفة أو عمر أو جنس، الذي لا يمتاز سوى بكونه كائناً.
يمثّل هذا الكتاب مرآة لانبثاق الإنسان المواطن في أوروبا، لكنّه يطرح علينا، وبإلحاح، فكرة الانتقال في عالمنا العربيّ، من منجزات النهضة العربيّة الأولى، إلى التحقيق الفعلي لفكرة «المواطن» بعيداً عن الشعارات السياسيّة الرنّانة المنتهية الصلاحيّة. يمثّل الكتاب ــــ رغم كلّ الثقل التغريبيّ الذي يمكن أن تطرحه إشكاليّة نشره مترجماً اليوم ــــ أمثولةً لاحتفاليّة المجتمع العادل.