قدّم الكاتب صورة «موضوعية» عن فترة صدر الإسلام، لكنّه أخفق في تحويل الرسول إلى شخصية أدبية خالدة خلودها في التاريخ. هل تستجيب روايته لمتطلّبات السوق الأوروبيّة؟
ياسين تملالي
«صمت محمد» («دار غاليمار» ـــــ باريس) آخر روايات سليم باشي أُدرجت في قائمة الكتب المرشحة لجائزة «غونكور» الأدبية 2008. وقد حاول فيها الكاتب الجزائري الشاب رسم بورتريه أدبي للرسول، معتمداً على السير الكلاسيكية (سيرة ابن هشام...) ودراسات أكثر حداثة لتاريخ العصر الإسلامي الأول. وفضل باشي إسناد مهمة السرد إلى أربعة رواة، كلّ منهم شخصيّة لعبت دوراً مهماً في صدر الإسلام: خديجة بنت خويلد، وأبو بكر الصديق، وخالد بن الوليد، وعائشة أم المؤمنين. ويروي كل منهم جانباً من سيرة الرسول: حديث خديجة مثلاً يكشف لنا تساؤلاته الميتافيزيقية قبل نزول الوحي، ويحكي طفولته وأسفاره الأولى مع عمومته إلى الشام. فيما يصف حديث خالد بن الوليد عبقريته وحنكته السياسية. وتتشابك الأحاديث الأربعة لتحوك خيوط حياة كُرِّست لمشروع عظيم في تاريخ الإنسانية: نشر الإيمان بوحدانية الله بين القبائل العربية الوثنية، ولمّ شملها في دولة توحّد شبه الجزيرة العربية.
لا تشبه حقبة ما قبل الإسلام في الرواية تلك «الجاهلية» التي لا تزال «الأفلام الدينية» تصوّرها كحقيقة مطلقة. بالعكس، تبدو هذه الحقبة مرحلةً انتقالية لم تكن خلالها شبه الجزيرة معزولة عما يجري في اليمن وبلاد فارس والعراق والشام، وكانت تتلقى تأثيرات بعض المذاهب النصرانية، كالنسطورية التي طبعت معتقد «الأحناف» من أمثال ورقة بن نوفل. والشيء نفسه يقال عن الصحابة: هم في كتاب باشي بشر ينتمون إلى عصرهم. ولا يضيرهم ـــــ وهم يروون افتتانهم بشخصية قائدهم ـــــ أن يعترفوا بالدوافع «غير الروحية» (الطموح بالنسبة إلى خالد بن الوليد مثلاً) التي أسهمت في اعتناقهم الديانة الجديدة. وبصورة عامة، فإنّ الكاتب، وإن استوحى وقائع روايته من السير المعروفة، إلا أنّه محصَ بعض تفاصيلها على ضوء دراسات أكثر إحكاماً. هذا ما يفسّر مثلاً عدم تسليمه بأطروحة «أمية الرسول».
ويتمثل الخيط الدقيق الذي يربط مختلف فصول الرواية، في فكرة أساسيّة هي «بشرية الرسول» المطلقة. صحيح أنّ هذه الفكرة ليست جديدة على المسلمين (رغم تراث صوفي طويل يمجده حدّ التقديس)، إلا أنّها أدبياً شديدة الخصوبة، فهي إذ تجعل من حياته حياة إنسان «يأكل الطعام ويمشي في الأسواق»، وتحولها إلى مادة سردية ثرية.
ورغم ما بذله باشي من جهود لـ«توثيق» قصته، إلا أنّ النص تشوبه بعض الأخطاء، ومنها ورود اسم مدينة «بُصرى» في شكل «بصرة». ويلاحظ أنّ هاجس الالتزام «بالتاريخ الحقيقي» لم يكن دائماً موفقاً من الناحية الأدبية، فبعض الأجزاء ركيكة لما يتخللها من إشارات سوسيولوجية أو اقتصادية هدفها وضع الأحداث في إطارها التاريخي. وللأسف، ليس هذا المأخذ الوحيد على الكتاب، فأسلوبه غير متنوع بما يكفي لتمييز «أصوات» الشخصيات الأربع بعضها عن البعض الآخر. وربما كان من الأجدى الاكتفاء براو واحد يتحدث بصيغة الغائب، وخصوصاً أنّ هذه «البوليفونيا» تبدو مجرد توزيع للعمل السردي على مختلف الرواة، ما لا يحقّق مقصد الكتابة الروائية الحديثة من استعمالها، ألا وهو التأكيد على استحالة وجود حقيقة واحدة. ولم يتمكن باشي من تفادي ما يسمّى بـ«الأناكرونيزم» وهو استعمال كلمات لم تكن معروفة في زمن الأحداث. نرى خالد بن الوليد مثلاً، يحسب المسافات بـ«الكيلومتر» الذي لم يعرف قبل القرن 17! ولم تتوقف مظاهر «الأناكرونيزم» عند هذا الحدّ، بل تعدّته إلى الأسلوب: «سأذكر دائماً همساتهما كارتداد موج أليم على زبد الذكريات»، تقول عائشة. من الواضح أنّ هذه الجملة ــــ بلاغياً ـــــ أقرب إلى شعر القرن التاسع عشر الفرنسي منها إلى كلام العرب في القرن السابع الميلادي. ثم هل هذه «الاستعارة البحرية» المعقّدة معقولة، حين ترد على لسان شخصية قضت جلّ حياتها في صحراء الحجاز؟
ويتساءل القارئ وهو ينهي قراءة Le Silence De Mahomet: هل أُلِّفت هذه الرواية رداً على طلب جمهور أوروبي ازداد اهتمامه بالإسلام في السنوات الأخيرة. فالكاتب وإن أفلح في وصف فترة صدر الإسلام بصورة «موضوعية»، فإنّه أخفق في تحويل الرسول إلى شخصية أدبية خالدة خلوده في التاريخ.