![](/sites/default/files/old/images/p18_20090212_pic1.jpg)
حسين بن حمزة
التاريخ حاضر أساسي في روايات جبّور الدويهي. إنّه يتراءى ــــ مدفوناً أو مكشوفاً ــــ تحت سطح عبارته الروائية. التاريخ هو البطانة الداخلية لقماشة هذا الروائي اللبناني الذي يتقن المزج بين عوالم مختلفة. عبارته نفسها لا تُخفي تغذِّيها من التاريخ، لكنّ التاريخ المقصود هنا هو ممارسة أوسع من التوثيق الزمني للأحداث. ما نجده في أعمال الدويهي هو خلاصات لحياة البشر والتغيّرات الاجتماعية والسياسية المحيطة بهم. إنّها «ثقافة تاريخية» و«فضاء تاريخي» مكوَّن من عادات الناس وأنماط العيش، وعمارة البيوت، والأشعار والأمثال الشعبية، ومانشيتات الصحف، ومحاضر التحقيق... حتى التصرّفات المتناهية الصغر للأفراد العاديين التي تصبح جزءاً من ثقافة حقبة ما. ثمة طبقات أنثروبولوجية وسوسيولوجية تقبع تحت سطح ما يُروى. ما نطالعه في روايات الدويهي هو ترجمة لائقة، ومتصرَّف بها بحسب متطلبات السرد، لمقولة فلوبير «الرواية هي التاريخ الخفي للشعوب». الفرق أنّ التاريخ هنا ليس خفياً دوماً. القارئ يتلقّى هذا التاريخ بجرعات متفاوتة، يتجوَّل ــــ صامتاً حيناً وهادراً أحياناً ــــ تحت السرد المتطوِّع لكتابة حياة الشخصيات ومصائرهم، ووصف بيئاتهم ووقائع حياتهم اليومية.
![](/sites/default/files/old/images/p18_20090212_pic1.jpg)
الواقع أنّ أعمال الدويهي تؤرِّخ، بالوقائع التاريخية وبالنبرة الخاصة المتماسكة، للحياة اللبنانية. لعلّ هذا هو هدف أي رواية في النهاية، لكنّ هذا الهدف أكثر وضوحاً في شغل الدويهي. ثمة ميلٌ إلى خلق بنية تاريخية تحتية لما يُبتكر من سرد روائي في الأعلى. إنّه ميلٌ شبه جماعي لدى جيل كامل من روائيي لبنان الذين تحولت أعمالهم إلى ظاهرة مثيرة للكثير من الأسئلة والتأويلات بتزامنها مع زمن الحرب الأهلية وما بعدها. لبنان المظهَّر بالسرد كشف عن صورة ذات طيَّات وتفاصيل أعقد بكثير من صورته البرّاقة المتداولة في الشعر والأغنية والحياة اللاهية.
القصد من هذه الإشارة القول إن تجربة الدويهي تُفسح له خصوصية، مسجَّلة باسمه، إذْ غالباً ما نُحسّ بأن رواياته تأخذنا إلى صيغة من صيغ لبنان السابق، قبل أن تتفتّت وتتذاوب بفعل العوامل والتطورات السياسية والاجتماعية. نقرأ مجموعته القصصية «النوم بين الأهل نعاس» فنفكر أنّ مفردة «الأهل» إعلان مبكر عن أطروحة سردية لن تغادر بيئة الأهل وتاريخهم. وفي «ريّا النهر» نطالع استثماراً روائياً بارعاً لحياة حقيقية تحضر فيها سيرة الرسام الرائد صليبا الدويهي. في «عين وردة» فقط، غادر الدويهي بيئته ــــ الفعلية والروائية ــــ إلى بيروت وضواحيها، وأنجز «تحقيقاً روائياً» عن بيت يعود لآل الباز، يتحوّل ذريعةًً لربط مصائر أفراد مالكيه مع مصير الزمن الذي عاشوا فيه، فيصبح أفول العائلة جزءاً من أفول حقبة أو مرحلة كاملة في تاريخ البلد. النَّفَس التاريخي والأهلي الحاضر في «مطر حزيران»، منحَ الدويهي فرصة رسم تماثل مقبول للنزاع الأهلي اللبناني في أحداث 1958 و1975.
التاريخ، بالمعنى السوسيولوجي الشامل، هو سمة جوهرية وحاسمة في نبرة الدويهي الروائية. صحيح أنّ التاريخ غير غائب عن أعمال أقرانه، إلا أنّه لديه أكثر كثافة. فهو لا يسعى إلى إنجاز «قطعة أدبية خالصة» كما هي حال حسن داوود، لكنه يتوافر على «الأدبية» التي يتجنّبها الياس خوري ورشيد الضعيف. ورواياته ليست «بحثاً اجتماعياً» كما يفعل محمد أبي سمرا، لكن المذاق الاجتماعي لا يغيب عن شغله. الأمر نفسه يمكن أن يُقال عن «العنف الاجتماعي والفردي» لدى هدى بركات وعلوية صبح، و«صراع الهوية» في أعمال إيمان حميدان يونس... وهي مواد موجودة بكيفيات مختلفة في روايات الدويهي. القصد من هذه المقارنات المتعجِّلة، الإشارة إلى المشهد الروائي اللبناني، الثري والمتعدِّد النبرات الذي يتقاسمه الدويهي مع أقرانه. المشهد الذي بات يُهدِّد صورة «لبنان الشاعر» بحسب عنوان كتاب قديم للشاعر صلاح لبكي.
يوقّع جبّور الدويهي Rose Fountain Motel الخامسة من مساء اليوم في مكتبة «البرج» ــــ 01/973797