عاش لحظتين متضادّتين: صعود المشروع القومي العربي وانكساره. وبين هذين التاريخين، سعى صاحب «منمنمات تاريخية» إلى تشريح بنية المجتمع العربي والتقاط القهر الكامن في أعماق الجماعة. مصطفى عبود يستعيد أيقونة المسرح السوري، راصداً تجربته وحياته ومشروعه
خليل صويلح
كأنّ المسرح السوري بعد غياب سعد الله ونّوس (1943 ــــ 1997)، فقد مشروعه الجمالي والتنويري. فجأة خفتت حدة الأسئلة السجالية، و«الجوع إلى الحوار» والنصوص المتمردة، والغاضبة، والطليعية. أيقونة المسرح السوري يعود إلى الواجهة (هل غاب فعلاً؟)، في كتاب يرصد تجربته وحياته ومشروعه المسرحي بعنوان «سعد الله ونّوس: متمرداً، حالماً، ومنوّراً» بتوقيع مصطفى عبود (منشورات «احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية»).
عاش سعد الله ونّوس لحظتين متضادتين: لحظة صعود المشروع القومي العربي، ولحظة انكساره، وبين هذين التاريخين، سعى صاحب «منمنمات تاريخية» (1994)، إلى تشريح بنية المجتمع العربي بمسرحة القهر، وإذا بنا أمام عقل مهزوم تاريخياً، وعدالة مفقودة، وسلطة مستبدة، حوّلت الإنسان العربي إلى كائن مقهور يعيش في قفص. سوف يلمع اسم سعد الله بعد هزيمة حزيران بنصٍ استثنائي هو «حفلة سمر من أجل 5حزيران» (1969)، ليدخل مسرح التسييس من أوسع أبوابه، واضعاً مسؤولية الهزيمة على الجميع. هكذا رفض الصيغ المسرحية الجاهزة، داعياً إلى مسرحٍ شعبي فعّال يشتغل على التجريب والتفاعل اليومي مع الجمهور. مسرح يعي «الصراعات الدائرة حوله، ويوضّح هذه الصراعات، ويكشفها ويحدّد طبيعتها»، وصولاً إلى «مسرح التغيير» ويتجسد هذا المفهوم بأنه حوار بين مساحتين. الأولى هي العرض المسرحي من جهة، والمتلقي من جهة ثانية «إني أحلم بمسرح تمتلئ فيه المساحتان. عرض تشترك فيه الصالة عبر حوارٍ مرتجل وغني يؤدي في النهاية إلى هذا الإحساس العميق بجماعيتنا وبطبيعة قدرنا ووحدته».
السلطة الشمولية مفردة أساسية في اهتمامات سعد الله في هذه المرحلة «فراح يفكك بنيتها، ويشرّحها، ليكشف عن مكوناتها، وآلية عملها، ومراكز اتخاذ القرار فيها. وفي المقابل كشف عن سلبية الطبقات الشعبية المسحوقة». هذا ما نجده بجلاءٍ في «حفلة سمر..،»، و«الفيل يا ملك الزمان»، و«مغامرة رأس المملوك جابر»، و«رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة». إذ يحاول في هذه النصوص استنهاض وعي هذه الطبقات واستثارة فعلها الإيجابي الخلّاق كي تسعى إلى تغيير عالمها. ويلحظ مصطفى عبود أن تأثر ونّوس في هذه المرحلة بمسرح بريشت، قاده إلى التفكير بالمسرح الملحمي، والتقى معه في خلفياته الفكرية، وفي تقنياته الفنية «كسر الإيهام وتحقيق التغريب، وإعلانه المسرَحة». وفي وظيفته الاجتماعية، هذه الوظيفة التي «ترمي إلى التغيير بدل
التطهير».
هكذا، تصبح الحكاية في هذا المسرح عنصراً أساسياً يقوم على أمثولة تحريضية، يستلهم مادتها الأولية من التراث الشعبي، كما في «سهرة مع أبي خليل القباني» و«الملك هو الملك»، فالحكواتي هنا يحتلّ موقع الراوي في لعبة مسرحية معلنة. سيكتشف سعد الله ونّوس لاحقاً، أنّه كان حالماً. إذا لم نقل واهماً، ها هو بعد سنواتٍ، يعترف في أحد حواراته بمرارة وأسى «المسرح ليس بؤرة انتفاضة. كان الاستنتاج مخيّباً ومُرّاً، وكان الحلم ينأى منطوياً في سراب أو وهم، نعم... تبدد الحلم وانطوى».
سوف يصمت صاحب «بيانات لمسرحٍ عربي جديد» (1988)، نحو عشر سنوات، كانت كافية لمراجعة مطبخه المسرحي وتصوراته للفرجة المسرحية. في «الاغتصاب» (1990)، التي أتت بمثابة فاصل بين مرحلتين، يعود بنصٍ إشكالي يشتبك مباشرة مع قضية الصراع العربي الإسرائيلي. سيثير النص بعد عرضه (أخرجه العراقي جواد الأسدي)، جدلاً واسعاً واتهامات بالتخاذل والمساومة وحتى الخيانة. لكنّ مصطفى عبود في قراءته لهذا النص ينفي مثل هذه الاتهامات، ويرى أن رؤية ونوس تمثّل «إطلالة عقلانية وديموقراطية عادلة على الآخر، خطابها هو خطاب الاختلاف المنفتح، ولعل هذا ما يبرر رفضها بالنسبة إلى بعضهم».
لم يكن السرطان مجرد مجاز مسرحي يتردد في فضاء النص، بل ها هو يقتحم جسد كاتبنا (1992)، ليضعه في دوّامة المرض والإنهاك، وبدلاً من اليأس والاحتضار، لجأ إلى الكتابة كنوعٍ من التحدي. وإذا به ينجز خلال فترة المرض سبعة نصوص، يسميها مصطفى عبود «مسرحة التحولات والانهيارات»، ففي هذه المرحلة الأخيرة التي بدأها بـ«منمنمات تاريخية» (1994) وأنهاها بـ«الأيام المخمورة» (1997)، يناوش ونوس قضيتين أساسيتين في مسرحه، هما الحقيقة والحرّية، ليغوص في مفردات الحب والجنس والفساد عبر شخصيات تفقد توازنها وتماسكها «فتضطرب الرؤية ويختل اليقين». وإذا كانت حقيقة المواطنة تضيع في «منمنمات تاريخية»، فإن بطل «الأيام المخمورة» يهتف قبل انتحاره ببرهةٍ «ما أشدّ وحشة هذا العالم». سيتكشف مسرح ونّوس في نصوصه الأخيرة عن بعدٍ سردي ونبرة شعرية، تقلصان مساحة الفعل الدرامي وتحجّمانه «كأن الخشبة لم تعد هاجساً أساسياً من هواجس الكتابة عنده»، فبعدما انتهى من دور المتمرّد ودور الحالم، اهتدى أخيراً إلى دور المثقف التنويري.
إضافة إلى الدراسة النقدية لأعمال صاحب «طقوس الإشارات والتحوّلات» (1994)، سنجد حوارات أُجريت مع الكاتب، تنطوي على قلق وأفكارٍ يقينية، سيتخلى عنها في حواراته الأخيرة، وإن ظل مؤمناً بأهمية الكتابة «التخلي عن الكتابة للمسرح هو جحود وخيانة لا تحتملهما روحي، وقد يعجّلان برحيلي». كذلك سنقرأ شهادات حارّة في تجربته الطويلة. يقول الفريد فرج في توصيف التجربة «كان ضوءاً كاشفاً عن خبايا الشخصية المسرحية وخفايا الموقف السياسي الاجتماعي الذي تفصح عنه سلوكيات الفرد والجماعة في مجتمع مأزوم»، وتقول خالدة سعيد «تتلاقى في أعماله صنعة الحرفي، إلهام الرائي، ذخيرة الحكواتي، بصيرة المحلّل وموهبة ابتداع الأساطير والرموز. مهندس منظومات ورؤى، رسّام مسارات عبور وتحوّل، صانع كنايات وأمثولات ونحّات رموز». أما فيصل درّاج فيشير إلى «شهوة حارقة تودّ إصلاح العالم، وحزن عميق على عالم يرفض الإصلاح».