حسين بن حمزةما نقرأه في مجموعة «ماء البارحة» (منشورات «الغاوون»)، وهي الأولى للشاعر الكردي/ السوري مروان علي، المقيم في ألمانيا، هو حياة شخصية أو شذرات متفرقة منها مترجمة بالشعر، بل بأبسط حالات الشعر إن شئنا توصيفاً أدقّ. ليس ثمة ادعاءات لغوية أو بحث مفتعل عن فتوحات جمالية. اللغة نفسها مكسورة الخاطر ولا تسعى إلى انتصارات تخييلية استعراضية. إنها نصوص ومقاطع، قصيرة وخافتة، مكتوبة في أرض السيرة ووفق مزاج صاحبها. كأنّ المجموعة كتاب يوميات أو وقائع وتخيّلات ذاتية في طريقها لتصبح يوميات شعرية. منذ القصيدة الأولى، يتلقَّى القارئ إشارة قوية وواضحة بهذا الشأن: «أنا مروان علي/ ولدتُ في القامشلي/ وسأموت في أمستردام/ قريباً من ساحة الدام/ وحدائق التوليب والريد لايتس/ منتشياً برائحة الماريجوانا/ تفوح من غرباء/ يشبهونني تماماً».
بهذه النبرة الشخصية، تنضم نصوص المجموعة إلى مشهد شعري واسع يتمُّ فيه استثمار تفاصيل الحياة ونثرياتها ومهملاتها. وهو ما بات ممارسة مفضَّلة لدى معظم الأصوات والتجارب في العقدين الأخيرين. ما يُنتبه له في المجموعة احتواؤها على أكثر من حياة يُؤرّخ لها. إذْ يتذكر الشاعر بشراً ومدناً ومذاقات وروائح قديمة، ويضعها إلى جوار حيوات حديثة أو جارية حالياً. أغلب نصوص المجموعة تُفصح عن سيرة كائن مهاجر لا يكفّ عن حكِّ روحه ومصيره مع أماكن يمكث فيها استعداداً لرحلة مستجدة. ولهذا، يصبح اعتيادياً أن تصبح الكتابة ذاتها ابنة لهذا الترحال. الشعر، كما يقرُّ الشاعر «كان يترصّدني في الحانات المهجورة/ وعلى أرصفة مدن غريبة/ وعلى أسرة باردة في غرفٍ رطبة». هكذا، يصبح سهلاً أن يتسرب أكراد وآشوريون وهولنديون وألمان وإيرلنديون وأتراك إلى القصائد، ويصبح ممكناً أن تحضر حيثيات مهاجرين: «غداً/ لدي مواعيد مهمة/ عليّ الذهاب أولاً/ إلى مكتب العمل/ لتسجيل اسمي/ في قائمة الباحثين عن عمل/ كي لا تنقطع المساعدة الشهرية/ ثم الذهاب إلى المحامية الإسبانية/ لترتيب أمور إقامتي». تفاصيل كهذه تجعل لعنوانٍ مثل «ماء البارحة» معنى أعمق حين يُخلط مع ماء اليوم والغد.
في الحالتين، لا يحصد المتخلّون عن حياتهم الأولى سوى الوهم والخسارة: «كانت الحياة الأخرى/ نسخة أخرى غير منقَّحة/ من حياتهم الأولى». أما الشاعر نفسه، فيكتفي بـ «الأخطاء الكثيرة/ التي أضاءت عمري/ لم تترك لي/ فرصة النجاة».