هل الاستبداد صفة ملازمة للشرق؟ هذا ما يتراءى لمؤلّف «هندسة الطاغية» (دار نينوى ــ دمشق). يقتفي الباحث العراقي أثر الطغاة تاريخياً منذ أثينا وإسبارطة وروما، ويسأل عن سرّ تجذّر قانونهم الدنيوي والإلهي في هذه البقعة المسحوقة من العالم
خليل صويلح
هل الاستبداد ظاهرة إنسانيّة أم قدر إلهي؟ سؤال يطرحه بدر خضر في مستهلّ كتابه «هندسة الطاغية» (دار نينوى ـــ دمشق)، بقصد رسم جغرافية للاستبداد وتاريخ الطغيان، في تشكّلاته الأولى عبر التاريخ، بدءاً من بلاد الرافدين. إذ تشير الرِّقَم البابلية إلى دور الآلهة في الإمساك بخيوط اللعبة التاريخية في ثنائية الراعي والرعية، أو السيّد والعبد. وإذا بها تمتد لتطال كل الحضارات القديمة بمعايير وقوانين مستنسخة في معنى الطاعة والخضوع. ولعل إشارة عبد الرحمن الكواكبي في «طبائع الاستبداد»: «ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ لنفسه صفةً قدسية يشارك بها الله»، تختزل تاريخ البشرية وتعاقب الطغاة من مصر الفرعونية إلى بلاد فارس واليونان والصين.
يبيّن الباحث العراقي الفروقات اللغوية بين الطاغية والمستبد. الطاغية هو «مَن تجاوز حدود الاستقامة، وأسرف في المعاصي والظلم والقهر». أما المستبد فهو «مَن تفرّد برأيه واستقلّ». وسيجتمع المصطلحان في العصر الحديث بمفردة واحدة هي الديكتاتور صاحب السلطة المطلقة. أفلاطون أول من سعى إلى تشريح صفات الطاغية وميوله ورغباته ليصل إلى نتيجة مفادها أنّ الدولة التي يحكمها طاغية لا يمكن أن تكون حرّة بل مستعبدة. وهو ما سيشير إليه فلاسفة ومفكرون أمثال أرسطو، ومونتسكيو، وجمال الدين الأفغاني، وروسو، وكانط، وهيغل، في أطروحات متشابهة تنبذ العسف السياسي وتعرّي الطاغية من زيّه الديني، كما تعيد المجتمع من صفة القطيع إلى حال المواطنة. لكن هل الطغيان صفة للشرق؟ هذا ما يؤكده الكتاب وهو يقتفي أثر الطغاة تاريخياً. الاستبداد الشرقي بات مصطلحاً متداولاً، نظراً إلى تناسل النماذج وحال الاستسلام للحاكم تحت وطأة القوة والبطش، والمفهوم القبلي والديني للسلطة. ويرى بعضهم أنّ عبودية الشرق ناتجة من انعدام الوعي الذاتي للفرد. وهذا ما يفسره المفكّر الألماني كارل أوغست فيتفوجل حين يقول «السلطة المستبدة لا تقوى على أن ترى وجود سلطات فاعلة إلى جانبها، فتعوق نموّ أي سلطة أخرى عبر التخويف والعقاب. ولهذا نظرت حكومات الاستبداد الشرقي إلى العقاب على أنّه الوسيلة الجوهرية لنجاح الدولة في إدارة شؤونها».
باستقرار الخلافة الإسلامية في العهد الأموي وما تلاه، سيكون السيف هو الحكم في تثبيت أركان سلطة الحاكم، وهناك عشرات الخطب التي قامت على التهديد والوعيد للرعية. ستحضرنا خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي بوصفه طاغية نموذجياً في سفك الدماء وقطع الرؤوس، وصاحب المقولة الشهيرة «إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها». ولن يشذّ عنه المعزّ لدين الله الفاطمي عندما دخل القاهرة وخطب في الناس. وحين سألوه عن حسبه ونسبه، أخرج من جيبه حفنةً من الدنانير ونثرها فوق رؤوسهم قائلاً: «هذا حسبي». ثم أخرج سيفه من غمده وقال «هذا نسبي». المال والقوة إذاً، هما جناحا الطاغية الشرقي لتثبيت أركان حكمه، إضافة إلى قاضٍ يصدّر الفتاوى تبعاً لهوى الحاكم. في العهد العباسي، كان الناس يعتقدون ـــــ بتأثير الفتاوى والخوف من المواجهة أو التمرّد ـــــ أنه إذا قُتل الخليفة «اختلّ نظام الكون، واحتجبت الشمس، وامتنع المطر، وجفّ النبات». هكذا بات قانون الطاعة مدخلاً إلى تكريس العبودية وسحق تطلعات الفرد في أثينا وإسبارطة وروما على السواء، ليستقر هذا القانون الدنيوي والإلهي أخيراً، في الشرق، من دون أن يغادر هذه الخريطة المسحوقة تحت وطأة الطغاة إلى اليوم.
الإذعان هو الوصفة السحرية للطغاة، وذلك بالتدمير الإجباري للخيال، واستئصال كل توق إلى الحرية عبر التعذيب والتنكيل ونشر الفساد في الدولة، وإحباط ثقافة المقاومة، وتفتيت البنى الداخلية للمجتمع. هذه بعض الملامح الثقافية والسيكولوجية للفرد في مجتمع القهر التي يراها الكاتب نزعةً أساسيةً في نشأة الدولة التسلطية وصورة للذهنية المقهورة المتمثلة في الانفعالية والذاتية وانعدام اليقين، وقصور الفكر النقدي، وتشويه الإنسان واستباحة كرامته وحريته، كمحصّلة تراكمية لعصور الانحطاط وحكم الطغاة.
يتتبع بدر خضر شجرة الطغيان بفروعها المتشابكة شرقاً وغرباً، قبل أن تتجذّر وتثمر في الشرق على شكل ديكتاتوريات مزمنة، من دون أن يضرب أمثلة محددة، بل يستعير حالات مشابهة من هتلر، وموسوليني، وفرانكو. وحين يسائِل حقبة جمال عبد الناصر بشكلٍ خاطف، سرعان ما ينفي صفة الطاغية عن الزعيم المصري، عبر تعداد مزاياه ومنجزاته الثورية. ثم يعود إلى مقاربة آليات الأنظمة الشمولية، ومعنى «المستبد العادل». هناك نقطة مغيّبة عمداً في متن الكتاب: كل الوقائع والمقاربات والاستنتاجات تشير إلى شخصيّة صدام حسين. لكنّ الكاتب العراقي ظل حذراً في الإشارة مباشرةً إلى هذا الطاغية النموذجي. الأرجح أنّه كان يعمل على شخصية الطاغية خلال حكم صدام للعراق، ولم يشأ أو يجرؤ على الوقوف في فوهة المدفع، فانكب على استحضار وقائع مشابهة من التاريخ الشرقي للاستبداد. وأنهى فصول الكتاب بملحقٍ دال بعنوان «الشخصية العدوانية»، وراح ينبش في مقومات هذه الشخصية التدميرية التي «تسعى إلى الهدم والدمار والقتل».