«مهيار» وانقراض العرب ورؤية «الوجه المنير»نزار آغري
حطّ أدونيس في إقليم كردستان العراق بدعوة من مركز «كلاويز» الثقافي في السليمانية. وهو ملتقى صغير يديره حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، صاحب النفوذ شبه المطلق في المدينة ويتزعمه الرئيس العراقي جلال طالباني. علّقت على جدران السليمانية صور أدونيس فخمّنه بعضهم مرشحاً للانتخابات التي ستُجرى في كردستان خلال أسابيع. أحيا الشاعر أمسيات لجمهور يجهل أغلبه العربية، وزار حلبجة التي تعرضت للقصف بالسلاح الكيمياوي من الجيش العراقي عام 1988، ووصف طالباني بـ«إنه أول رئيس جمهورية يلتقيه ويفتخر بلقائهلم يتطرق أدونيس إلى السبب الذي جعله يزور إقليم كردستان، ولا يزور غيرها من المدن العراقية خارج الإقليم الكردي، بما فيها بغداد. وقد هاجم الحضارة العربية ووصفها بأنّها تدخل طور الانقراض، وتمنى ألا تصيب عدوى العرب الوسط الثقافي الكردي.
لكن ماذا فعل أدونيس في كردستان؟ هل ذهب يبحث عن الشعر والحداثة؟ ألم تكن هناك أماكن أكثر اكتراثاً بهذه الأشياء من الإقليم الذي لا وقت له للشعر، هو الغارق في سجالات النفط وكركوك والبيشمركة؟ هل ذهب ليؤكد دعمه للأكراد بوصفهم ضحايا نظام فتك بهم باسم العروبة؟ لماذا توريط الشعر والأدب إذاً؟ ثم إن الأكراد باتوا أحراراً وكفوا عن كونهم ضحية. هم كانوا كذلك لوقت طويل لزم خلاله أدونيس الصمت، أسوة بكتّاب عرب كثيرين. لم ينبس ببنت شفة حين كان الأكراد يحتاجون إلى جملة تضامن أو مجرد شفقة. حين كانوا يموتون خنقاً وشنقاً، آثر أدونيس أن يرتكب «خيانة» الصمت. والآن حين تحولوا من «الثورة» إلى «الثروة» ونزلوا من الجبال إلى القصور التي امتلأت بالمال، أصبح التعاطف معهم مرغوباً. اكتشف سينمائي مصري أنه من أصول كردية وتعهد بأن يصنع فيلماً عن مصطفى البارزاني. وتراءى لصحافي عراقي، يعمل في جريدة خليجية، هو البعثي السابق، أنّ الأكراد خير شعب والطالباني أعظم رئيس. بدوره، اكتشف أدونيس أن كردستان هي موطن الشعر والبيان... العربيين. لم يهتم يوماً أدونيس بالأكراد بوصفهم بشراً وتاريخاً ووطناً وثقافة. كتب عن أنطون سعادة وآية الله الخميني والثورات العالمية، ولم يذكر الأكراد بكلمة. وحين يحذِّر من الإصابة بعدوى العرب، فالأرجح أنّه يستخف بعقول مستمعيه. ما هي الحضارة الكردية التي يخشى أدونيس أن يصيبها ما أصاب الحضارة العربية؟ هل يملك معطيات عن ثقافة الأكراد وإسهاماتهم؟
كان يهمّ المثقفين الأكراد ممن كانوا يستمعون لأدونيس، أن يسمعوا ما يشبع رغبتهم في التخلص من عقدة النقص الكبيرة التي تستوطن دواخلهم. لقد أخذهم أدونيس «على قد حالهم» ولم يقل ما يمكن أن يجرح شعورهم النرجسي. لم يرد أن يديرهم إلى حيث يمكن أن يروا الذات في مرآة الحقيقة. حقيقة أنّهم أكثر تخلفاً من العرب. أنّ العدوى تقوم بينهم منذ زمن. أنّهم موتى حقيقيون في ميزان الحضارة والثقافة والإبداع. لم يتصرف أدونيس معهم تصرّف الصديق، بل سلك مسلك عابر السبيل. الصديق يواجه صديقه بالحقيقة وعابر السبيل يلاطف ولا يكترث لواقع الحال.
فجأة أصبح المثقفون الكرد «أدونيسيين»، يكتبون عن عظمة أدونيس، هم الذين لم يقرأوا ديواناً له، وبات أدونيس أملاً للشعوب المقهورة. وانصبّت اللعنات على المثقفين العرب الذين انتقدوا تصريحاته. كتب أحدهم: «فقاعات الصابون التي أثارها بعض المثقفين العرب بوجه أدونيس بسبب زيارته كردستان العراق تكشف مرة أخرى عن الوجه القبيح لثقافة ظلامية مسكونة بالماضي وخائفة من الحاضر ورافضة لمياه المستقبل النقية التي تجري تحت أقدامنا من دون أن يدركها هؤلاء المثقفون». قال أدونيس: «إن اجتمع الأميركي والأوروبي والعربي مثلاً على طاولة واحدة، تُرى، فماذا يمكن أن يقدمه العربي؟ لا شيء». أرضى هذا الأمر مستمعيه من الأكراد. لكن ماذا لو انضم الكردي إلى تلك الطاولة: ماذا يمكن أن يقدمه؟
وصف أدونيس الثقافة العربية بأنها «مؤسساتية وليست مستقلة... وتخدم السلطة». هذا صحيح في جانب كبير منه. لكن هل يعرف أدونيس شيئاً عن حال الثقافة الكردية؟ هل يعرف أن كردستان غارقة تحت هيمنة الذهنية العشائرية والسلوك الأبوي واحتقار المرأة؟ هل يعرف أن هناك سيادة لسلطة الفساد والمافيات العائلية والحزبية؟ هل يعرف أنّ السلطة السياسية الكردية الحاكمة تحاول، كالسلطات العربية، احتكار الفهم الجمعي وترسيخ طقوس عبادة الزعيم الأوحد وتدجين المثقف؟
حين كان أدونيس يطنب في مديح الحرية العامرة في ربوع كردستان ومعه الشاعر شيركو بيكس، كان يجري اعتقال شيركو آخر هو رئيس تحرير صحيفة «ريلاوه». أما ذنبه فإنه كتب مقالاً ينتقد فيه السلطة الكردية. لم يسأل أدونيس نفسه عن السبب الذي جعل الزعيم الكردي يدعوه إلى كردستان. أحباً بشعره وأفكاره عن الحداثة والتنوير والحرية؟ قبيل مجيء أدونيس إلى كردستان، ردّ الزعيم الكردي على منتقديه: «القمر المنير لا يأبه لنباح الكلاب». هل ذهب أدونيس إلى كردستان لرؤية القمر المنير؟