لم تعد السلطة تهتّم بالمدوّنين التقليديين. الموقع الأشهر في العالم استقطب النشاط التدويني كلّه وصار أكثر ذكاءً في التعامل مع الرقابة!

محمد خير
تبدو تلك سمة عربية بامتياز: أن تكون إحدى أهم الخدمات التي يقدّمها موقع «بوابة المدونين» استشارات قانونية عن التدوين، كي يعرف كل مدوّن حدود «حريته». فقدَر أن تكون عربياً يجعل السجن من أولويات تفكيرك مهما كان نشاطك. لكن القضية ليست هنا. ثمة قضية أكثر إثارة للدهشة: رغم انطلاق نشاط التدوين قبل سنوات قليلة في العالم الغربي ثم العالم العربي، إلا أن إنشاء هذا الموقع يبدو كأنه خارج زمنه. ذلك أنّ التدوين بشكله الحالي، أصبح نشاطاً قديماً. في زمننا الذي تلى عصر السرعة، نحتاج إلى توصيف جديد للوقت والنشاط... توصيف أكثر سرعة.
هكذا، المدوّنات التي كانت حتى الأمس القريب نجمة الموسم، أصبحت أقدم بكثير من «فايسبوك» الذي احتفل أخيراً بالمستخدم الرقم 250 مليوناً، بعد 3 أشهر من الاحتفال بالمستخدم الرقم 200 مليون! الموقع الشهير اجتذب المدوّنين إلى جدرانه المفتوحة... للأصدقاء فقط. جدران يمكن تحريكها، توسيعها أو تضييقها، وبعضها مسموح له بالظهور في نتائج محركات البحث. مع ذلك، يبقى «فايسبوك» موقعاً اجتماعياً لا كونياً، ينطبق عليه ما ينطبق على المجتمعات من قبول ورفض، تجمعات وعصبيات. وهو ليس مفتوحاً ومرهوناً بضربة حظ على لوحة المفاتيح كما هي المدوّنات «القديمة».

تعلّمت السلطات خفايا تكنولوجيا الاتصالات وراحت تكافح الناشطين
عبر «فايسبوك» إذاً، يتّخذ التدوين شكلاً أكثر حميمية، بما يتيحه ذلك من سلبيات كالانعزال، وإيجابيات أيضاً. إذ يشجّع المجتمع المغلق على مزيد من الجدل والنقاش، وحيث يصعب أن يمر أحد دون ترك بصمة، ولو كانت مجرد علامة i like. وهنا نجد الفرق بينه وبين المدوّنة المفتوحة التي يضع صاحبها برنامجاً يحسب عدد زواره. لكن الأثر الأوضح لانتقال النشاط التدويني إلى «فايسبوك» كان سياسياً. كيف أدرك المستخدم العربي أنّ هذا الموقع آت بقوة؟ الجواب: عندما بدأ البوليس باعتقال مستخدميه بدلاً من ــــ أو مع ــــ المدونين «التقليديين».
وكما كان المصريون في طليعة نظرائهم العرب، من حيث الاستخدام السياسي للتدوين، كانوا كذلك في «فايسبوك». وتكفي العودة إلى إضراب 6 إبريل الشهير لملاحظة تغير الوسيط الافتراضي. من يومها، تسلّم نشطاء الموقع الاجتماعي الأشهر «راية الاعتقالات»، ومعظمهم مدونون بطبيعة الحال. هؤلاء لم يصبحوا مدوّنين سابقين بعد، لكن مدوناتهم خارج Facebook أصبحت أبطأ نمواً على مستوى معدّل نشر المواد ومستوى التعليقات و... استفزاز السلطات!
ويبدو أن مستخدمي «فايسبوك» اكتسبوا خبرات أمنية من تجربة التدوين السابقة. إذ تخلو المجموعات «الخطرة» من الأسماء الحقيقية. لقد جلب المدونون ثم ناشطو الموقع الأميركي، الواقعَ بمشكلاته إلى العالم الافتراضي، فلحقت بهم سلطات الواقع! وفي عالم عربي تنتظر فيه التعديلات التشريعية عقوداً لتُطوّر، تنفرد الشريعات الأمنية باختصار الوقت والمسافة. هكذا بسرعة البرق، تعلّمت السلطات العربية خفايا تكنولوجيا الاتصالات وأسّست مكاتب لتعقب الناشطين (تحت عنوان مكافحة الجريمة!). ثم وسّعت دائرة تطبيق التشريعات المقيّدة للتعبير، لتشمل التعبير الافتراضي، وتصدر الأحكام بمعدل يبدو أسرع من الواقع غير الافتراضي. وقد استقبلت السجون من المحيط إلى الخليج مدونين مع تهم تتنوع بين تهديد الأمن وتكدير الصفو العام أو إثارة النعرات الطائفية...
ويعاني المدونون وناشطو «فايسبوك» أيضاً من أحكام بالسجن. وإن بدأت الانتهاكات بالفصل بين نشاط التدوين ذاته والنشاط السياسي. وكانت الاعتقالات تتركز أولاً على من يمارسون السياسة في الشارع إلى جانب التدوين. لكن هذا النهج انتهى إلى عدم الفصل بين الواقعي والافتراضي. وخصوصاً أن أغلب التكييفات التشريعية التي «طوّرت» للتعامل مع الإنترنت، تتعلّق بمواد التحريض والتكدير وإهانة الرئيس أو الملك... وهي جوانب لا تشترط لمحاسبة «مرتكبها» أن ينظّم تظاهرة في الشارع.
غير أن الصورة ليست بهذه القتامة. يبقى التطور التكنولوجي عاملاً يسبق حصار السلطات. ورغم «جهود» السلطات العربية للسيطرة على العالم الافتراضي، يمكن ملاحظة تغيّرات إيجابية في وعي الشباب العربي رغم الحصار. وللتأكد من ذلك، تكفي جولة بين المدونات، حيث تصعب الإحاطة بالنقاش الاجتماعي والسياسي الذي لم يكن قائماً بمثل تلك الحيوية قبل التدوين.