صرخة احتجاج تطلقها المخرجة السوريّة بعد منع فيلمها «أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها» في بلدها، وعرضه في بيروت ضمن «قافلة النساء» التي لم تمرّ في دمشق
هالة العبد الله *
في أيلول (سبتمبر) 2006، عندما رأيت العلم السوري يرفرف فوق قصر السينما في «مهرجان فينيسيا» (البندقيّة)، دمعت عيناي تأثراً. لم أفكر يومها أنني لست مواطنة سورية صالحة بما في الكفاية ــــ في نظر الرقيب السوري ــــ كي أستحقّ هذا الفخر. فالعلم رفرف يومذاك إعلاناً عن وجود فيلمي «أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها» في المهرجان الإيطالي العريق.
خلال 75 عاماً من عمر الـ«بينالي»، كانت هذه المرة الأولى التي يشارك فيها فيلم سوري، وقد حصل الشريط على جائزة اتحاد الوثائقيين الإيطاليين في المهرجان. بعدها، تنقل بين أكبر مهرجانات العالم وأصغرها... وعُرِضَ حتى الآن في أكثر من 55 بلداً. كان يلتقي في رحلته بجمهور متنوع الثقافات والانتماءات، ويُستقبل بفضول وبحرارة. فهو الفيلم الآتي من بلد بعيد لا يعرف عنه المتفرج سوى القليل مما ينقله الإعلام. وجهة نظر أحادية تحكي دوماً عن لحظة سياسية راهنة، بينما كان يكتشف المشاهد، آسيوياً كان أم أوروبياً أم أميركياً، من خلال العمل، أن هذا البلد غني بناسه، وماضيه، وثقافته، وأن هذه المنطقة جديرة بأن ينصت إلى صوتها بتأن وتأمل.
وبعد انتهاء العرض، كان الياباني أو الألماني يسألني ويناقشني في عدد من القضايا الجماليّة أو الفكريّة والتاريخيّة. لم نكن نحكي سوى عن جمال شخصيات الفيلم وغناها وتقاطعاتها الإنسانية معهم، عن تاريخ المنطقة ومستقبلها، وتجربة صناعة فيلم وثائقي بهذا الشكل، وبتلك الشروط.
وعندما كان يطرح عليّ السؤال إن كان الفيلم قد عُرض في سوريا، كنت أقول بثقة: «ليس بعد. سفري ومرافقتي لحركة العروض، لم يسمحا لي بعد بأن أنظم هذا العرض المشتهى. لكنّ موعدي مع جمهوري وشعبي آت لا محالة». وعندما تدخل الشاشة في الأسود في نهاية كل عرض، وذلك للحظات قبل أن تضاء صالة السينما، كنتُ دوماً أغمض عينيّ وأتخيلني في سوريا.
نحن اليوم في عام 2010. فيلمي البكر دخل عامه الرابع. وفي الأسبوع الأخير من شهر شباط (فبراير)، تَحدد لأول مرة موعده مع الجمهور السوري في «صالة الكندي» في دمشق. تسارعت دقات قلب فيلمي، والتمعت عيناه كمراهق يلتقي حبيبته للمرّة الأولى، بعد طول انتظار. كان الموعد المنتظر في إطار تظاهرة «قافلة بين سينمائيات» التي تختار كل عام مجموعة أفلام أنجزتها سينمائيات من المنطقة العربية، ومن أميركا اللاتينية، ثم تتجول بها وتعرضها في بلاد مخرجات تلك الأعمال. لكن الموعد أجهض في الأيّام الأخيرة، بسبب قرار غامض أصدرته الرقابة!
تجولت أفلام «القافلة» في معظم دول أميركا اللاتينية، وفي مصر والأردن ولبنان، فيما أدارت سوريا لها ظهرها. أغلقت «صالة الكندي» أبوابها في وجه التظاهرة، وصادرت الرقابة خمسة أفلام مقرّرة على البرنامج، بينها فيلمي. ثم كي يُسمح بعرض بقية الأفلام غير الممنوعة، جاءت الشروط الإضافية عبر الإسبان. فالسفارة الإسبانية ــــ المنظم الرئيس للتظاهرة ــــ تلقّت «نصائح» ثمينة من المؤسسة الرسميّة. كان من المستحسن، مثلاً، عدم وجود المخرجات «المنوعات» في الصالة أثناء العروض، كي لا يستفز وجودهن الجانب السوري. كما نصحت السفارة بأن تُحذف الأفلام الخمسة الممنوعة من كاتالوغ التظاهرة، وبأن وبأن... المخرجة المصريّة أمل رمسيس، المشرفة على المشروع، شعرت بأن سلّم التنازلات لن ينتهي، وأنّ قبول الشروط هذه سيمسّ الأهداف الأساسية للتظاهرة. هكذا تقرر تغيير الطريق «القافلة»، والذهاب من عمان إلى بيروت، من دون المرور بدمشق. أي إن التظاهرة ألغيت كليّة في سوريا، فحافظت على كرامتها، وتفادت أي توتّر في علاقة الاتحاد الأوروبي بالبلد المضيف، إذا أصرت على إقامة العروض، هذا ما أوضحه دبلوماسي إسباني كون بلده ترأس الاتحاد الأوروبي!
انتهت الحكاية هنا؟ أم بدأت؟ فيلمي، المراهق العاشق لن يلتقي بحبيبته. كيف سأشرح له؟ كيف سأخفف من خيبته؟ وكيف سأقنعه بأنه، رغم منعه في دمشق، لا يحمل الرعب والموت، بل هو وسيبقى فيلماً عن الحب والحياة؟
أجهضت العروض من دون أن يُعلن أحد سبب هذا القرار، وانتشر الخبر في دمشق بخجل وبطء. تظاهرة أفلام النساء لن تمر من هنا. قوبل المنع بابتسامة غامضة من جانب كثيرين. ابتسامة العارف والمتوقع، أو ابتسامة المتألم اليائس، أو ابتسامة الذي لا حول له ولا قوة.
هل خفّف مَنْع فيلمي عمر أميرالاي وأسامة محمّد من بؤس الواقع في سوريا؟
هل انتهت الحكاية هنا؟ أم لم تنته؟ أنا المعنية بعرض لفيلمي في «صالة الكندي»، سأكتفي هنا بطرح الأسئلة التي تقضّ مضجعي. (هل يحق لنا أن نطرح الأسئلة أم أنّ هذا أيضاً ممنوع ويهدد استقرار البلاد؟): من الذي يقرر قطع الطريق على «أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها»؟ من الذي يقرر أن المتفرج السوري لا يحق له أن يرى الفيلم؟ لماذا يحقّ للجمهور البوليفي والمكسيكي والمصري والأردني واللبناني، أن يرى... فيما المشاهد السوري ما زال مراهقاً لم يبلغ رشده بعد، وهناك أوصياء مهمّتهم أن يقرروا عنه؟ إلى متى سيكون على الفرد في سوريا أن يقبل تحريم الأفلام ومنعها؟ هل هو مستعد للنزول إلى الشارع ليطالب بحقوقه؟ هل كلّ ما كان ينقصه هو مشاهدة فيلم سينمائي كي يعلن بعدها التمرّد والعصيان؟ وهل ما يتطرق له فيلمي بعيد عن الحقيقة والواقع السوريين؟ أم أن مضمون العمل يربك عين الرقيب ويشعره بالخجل، لذا تراه يفضّل ألا يراه أحد بعده؟
متى تعي المؤسسة الرسميّة أن مصادرة شريط سينمائي، لن تلغي نظرة المبدع ونظرة الجمهور النقديّة إلى الواقع؟ هل خطر ببال الرقيب، إذا كان يجد الواقع مخجلاً، أن الحل ليس بإخفائه؟ إلى متى يخاف الرقيب في بلدي من عمل إبداعي؟ من فيلم لن يراه، في النهاية، سوى عدد محدود من الأشخاص. فيلم ليس همه سوى تمسيد آلام شخصياته والتخفيف من أوجاعها.
هل مَنْع فيلم عمر أميرالاي «الحياة اليومية لقرية سورية» الذي امتدّ على أربعين عاماً، يعني أن هذه القرية الموجوعة في الشمال السوري أصبحت أقل وجعاً؟ وهل منع فيلم «نجوم النهار» لأسامة محمد الذي أنتجته «مؤسسة السينما» التابعة لوزارة الثقافة، جعل الازدهار والديموقراطية يعمّان البلاد؟ وهل منع فيلم «زبد» لريم علي سيوقف أحلام الناس بالهجرة، لأنها لم تعد تجد ما تأكله في هذه البلاد؟
كيف يجوز في عام ٢٠١٠ أن تواصل هذه العلاقة الغامضة، غير المبررة، مع الرقيب؟ أيعقل أن تبقى النخب السوريّة كلّها، والشعب كلّه، مثل أطفال مقاصصين في الصف الأول، ترتعد فرائصهم من شبح أستاذ يلاحقهم ويعاقبهم على ذنب لم يقترفوه. شبح يقرر أن القبو هو المكان الذي نستحقه، فيحرمنا من الضوء والهواء، ويفرض علينا أن نكبر وننمو من دون كبرياء وكرامة... محنيي الظهر، ومغمضي الأعين، وبروح زرقاء؟
أي موظّف رسمي يحقّ له أن يقرر عني ماذا أقرأ، وماذا أشاهد، ومتى أتنفس، ومتى أعبر عن نفسي؟ ومن هو هذا الموظّف؟ ومن أين يستمدّ صلاحياته، وقوته، وسلطته، وشرعيته؟ ما هي معاييره؟ وما هي أهدافه؟ وما هي نواياه على المدى القريب أو العيد؟ وقبل كل ذلك: ما الذي يخيفه، وعلى ماذا يخاف؟
هذا هو السؤال الأول والأخير. على ماذا يخاف الرقيب السوري؟ هذا الضمير المستتر، هذا الصوت السري الذي لا أعرف توقيعه، ولا أعرف اسمه، ولا أعرف متى يأتي ولا متى يغيب. أسمع بالمنع. أحسّ به. أتلمسه كإنسان أعمى. إذ لا يحق لي كمواطنة، أن تلتقي عيني بعين الرقيب! أعرف أن عيني لن تلتقي عينه، عينه السوداء التي لا بياض فيها، عينٌ لا تعمل إلا في العتمة، عينٌ لا ترى النور ولا ترى في النور.
* سينمائية سورية


صور وذكريات

في «أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها» (2006)، أنجزت السينمائية السورية هالة العبد الله بمساعدة المخرج الشاب عمار البيك، وثائقياً حميماً صوِّر بالأسود والأبيض. الشريط المشغول بقافلة من الذكريات والصور، يستعيد حقبة الأحلام المنكسرة، من خلال تجارب متشعبة لصديقات يساريات. ويروي الشريط قصص السجن السياسي والتجارب التي مرت بها ثلاث معتقلات سابقات.