عن اللغة والقدر الصعب والفرادة المصحوبة بالإهمال
صاحب التجربة المتفرِّدة الذي تقاعس النقد إجمالاً عن تناول نصّه الصعب، لم يُستدخل في جيل أو في تيار أو مناخ كتابي. كتاب «التعجيل في قروض النثر» (دار الزمان) يضمّ مقالات وحوارات تساعد على ارتياد الفناء الخلفي لتجربة هذا الشاعر السوري الذي ظهر كالعاصفة في أوائل السبعينيات

حسين بن حمزة
سليم بركات هو الناطق الأكثر درايةً باسم نبرته ومعجمه ومخيلته. لم يُقرأ هذا الشاعر الكردي السوري بالطريقة التي يستحقها أصلاً، فلماذا يكون له ناطقٌ أو ناطقون غيره باسم تجربته؟ باستثناء بعض التناولات الجادة، خصوصاً ما كتبه الناقد صبحي حديدي، لا نجد لبركات ذكراً لائقاً في الكتابات النقدية العربية. ثمة تبجيلٌ شائع لتجربته، وهالةٌ مسبقة حول اسمه، لكن من دون أن يترافق ذلك مع تشخيص حقيقي لمنشأ هذا التبجيل ومصادر تلك الهالة. لعل خلفيَّته الكردية لعبت دوراً في ذلك، لكن خصوصية تجربته لعبت دوراً مماثلاً في انفضاض النقد ــــ الكسول وغير الكفوء على أي حال ـــــ عن أطروحات نصية شاقّة كالتي طرحها بركات في تجربته.
في حالة صاحب «الجمهرات»، تحولت الخصوصية إلى صفة نابذة. بحسب تقاليدنا النقدية المتثائبة، يسهل تجاهل تجربة بلا آباء صريحين وبلا أبناء صالحين، من دون الشعور بالتأنيب أو الإثم. هكذا، وُضع الشاعر ذو التجربة المتفرِّدة على حدة. لم يُستدخل في جيل أو في تيار أو مناخ كتابي. جزءٌ من هذا الإفراد، الممزوج بالإقصاء طبعاً، عائد إلى خصوصية سليم بركات نفسه. لعلُّه راضٍ بالسمعة الطيبة التي يتمتع بها في حياتنا الشعرية والروائية، لكنه، على الأرجح، يكظم تذمُّراً شديداً من الجور النقدي غير المبرر بحقِّ تجربته.
الفرادة المصحوبة بالإهمال، هي ما يتناهى إلينا ونحن نطالع كتابه «التعجيل في قروض النثر» (دار الزمان) الذي يضم نصوصاً ومقالات نشرها صاحب « فقهاء الظلام» متفرقةً في منابر عدة، فضلاً عن إجابات مستلَّة من حوارات ألغيت فيها الأسئلة، فتتراءى لنا مثل تأملات في التجربة الشخصية وخلاصات في فهم مكابدات الكتابة. إنها المرة الأولى التي نطالع فيها شيئاً غير الشعر والرواية، النوعين اللذين قدَّم فيهما بركات تجربته الفذَّة.
الوعورة جزء من فنٍّ شخصي، تتسرّب إلى مقالات الشاعر وحواراته
نتحمّس لإمكانية أن يمنحنا الكتاب، فرصة للتجوال في الفناء الخلفي لتجربة هذا الشاعر الذي ظهر كالعاصفة في أوائل السبعينيات. نفكر أن كلام الشاعر/ الروائي عن تجربته سيكون أكثر وضوحاً ويُسراً من تجربته نفسها. تتحقق بعض توقعاتنا، لكن بركات لا يقدم تسويةً شاملة للقراء والنقاد. لعل تسويةً كهذه فات أوانها أصلاً. ربَّى صاحب «دينوكا بريفا» جملته الأثيرة وتربَّى عليها. صارت مزاجاً ونَفَسَاً وجِلْداً. نقرأ، ونحس أننا نتلمس المكونات والعناصر الخصبة للنصوص التي قرأنا مراراً، من دون أن نهتدي إلى الصورة المكتملة لعوالم هذا الشاعر ونبرته، وطموحاته غير المرشحة للتريُّث أو التقاط الأنفاس. وحشياً وغيرَ مروَّضٍ، بدأ بركات ولا يزال محتفظاً بطاقة غير اعتيادية على البحث والاشتقاق وارتياد مجاهلَ غير مستنفدة من اللغة والبلاغة والموضوعات.
بطريقة ما، يشتغل الكتاب على تذليل وعورة نصوص بركات، لكن ليس بلغة مسترخية وغير وعرة! الوعورة جزء من فنٍّ شخصي هنا، ومن الطبيعي أن تتسرّب إلى مقالات الشاعر وحواراته. «أنا صعب. قَدَري صعب. وكتابتي اشتغالُ قدري عليّ واشتغالي على قدري»، يقول بركات في القسم الثالث المخصص لحوارات أُجريت معه. وهو القسم الأكثر التصاقاً بمشغل الشاعر وخياله ونبرته.
ننتبه إلى تاريخ شخصي قاسٍ، خفي تارةً وساطع طوراً، يمرُّ بين فصول الكتاب وفقراته. ترك الشاعر مدينة القامشلي، مسقط رأسه حيث كتب «الجندب الحديدي»، و«هاته عالياً... هاتِ النفير على آخره»، سيرتي طفولته وصباه. درس الأدب العربي في دمشق، ثم غادرها إلى بيروت. هناك، عثر على فضائه الأرحب، ونشر «كلُّ داخلٍ سيهتف لأجلي، وكلُّ خارجٍ أيضاً» (1973) باكورته المستهلَّة بمقدمة لخالدة سعيد التي ستضعه فوراً في الصفوف الأولى داخل المشهد الشعري العربي. عمل مع الثورة الفلسطينية، وغادر مع مقاتليها بعد اجتياح بيروت، الحاضرة في نصه الفاتن «أقفال البحر» عن الأيام الأخيرة لحصار المدينة والخروج منها.
في قبرص، واصل صداقته مع محمود درويش وعمل سكرتير تحرير مجلة «الكرمل». نقرأ أن درويش أبكاهُ حين أسرَّ في ندوة شاركا فيها: «بذلتُ جهداً كي لا أتأثر بسليم بركات» (أين هذا الاعتراف النبيل من ادّعاء أدونيس أخيراً بأن درويشاً ورثه؟). يقيم صاحب «ريش» في السويد منذ عام 1999، لكنه لا يعتبر كل إقاماته الموقتة منفى. لماذا؟ «لأنني لم أملك ما هو نقيض المنفى. في كل مكان لم أكن مواطناً بحقوقٍ مقبولة». ككردي كتب بالعربية، يقول عن منفى اللغة: «لغتي العربية «هوية» انتساب العربي إلى كرديتي شريكاً في ميراث الخيال». وعن وعورة نصه، يقول: «لو رغبتُ في سهلٍ من السرد... كنتُ فتحتُ على نفسي سخاءً من المديح والترجمة». يعترف: «كتبتُ الرواية بعدَّة الشعر»، وهو ما نقل وعورته إلى سردياته الروائية الخارجة عن المألوف.
نقرأ صاحب «هياج الإوز»، فلا نعرف ماذا نقتبس وماذا نترك من تعبيراته الذكية والعميقة. ثمة متعة هائلة تتحصَّل من تأويلات بركات لتجربته. قراءة عاجلة كهذه لا تكفي لعرض دسامة أفكاره وآرائه. ولا تحيط بالدَّهاء الذي يُنجز به تلك الآراء... آراء هيهاتَ أن تنجو من براثن نبرته الفريدة.