بعد مرور شهرين على بدء الاحتجاجات والتظاهرات بسبب أزمة النفايات في لبنان، اتخذت الحكومة موقفاً متصلباً مفاده بأنها لن تخضع لمساءلة الشعب لها. فقد أطلقت العنان لمؤسساتها الأمنية التي استخدمت أساليب العنف غير المبرّرة بحق المتظاهرين، وقبضت على بعض منهم فيما غضت النظر عن البلطجية التابعين لأحزاب مسلحة، وأحالت أخيراً بعض المتظاهرين إلى المحاكم العسكرية لمقاضاتهم.
فالدولة اللبنانية التي غالباً ما تغيب عند الحاجة الماسّة اليها، تستعرض عضلاتها أمام المواطنين المسالمين والعزّل الذين ارتكبوا جريمة المطالبة بخدمات أفضل، أولاها إدارة النفايات. لم نكن نعلم أن هذه المطالب تمثّل خطراً على «الأمن القومي». والذنب لا يقع على الحكومة والنخبة السياسية فحسب، فقد انضمت اليهما منظمات الأعمال وبعض وسائل الإعلام للدفاع عن النظام السياسي الفاشل.
أما بالنسبة الى المتظاهرين، فقد نختلف معهم حول العديد من القضايا التكتيكية، ولكن جوهر مطالبهم، أي المحاسبة، أمر شرعي ولا بدّ من الثناء على مثابرتهم وتشجيعهم على الاستمرار. أولاً المساءلة (أو المحاسبة من غير حصرها بحركة «بدنا نحاسب») ليست ركيزة تأسيسية للديمقراطية فحسب، بل هي أيضاً مفتاح لتأمين الخدمات العامة على نحو أفضل. بعبارة أخرى، بدون مساءلة، لن يتلقى المواطنون اللبنانيون خدمات أفضل، لأن السياسيين لا يملكون أي حافز لتوفير تلك الخدمات. وبصراحة أكبر، أولئك الذين يعتقدون أنهم سيحصلون على خدمات أفضل إذا حكمهم زعيم طائفتهم مخطئون تماماً. ليس من سياسي أو حزب سياسي خدم الناس الذين يزعم تمثيلهم. في الواقع، وباسم السياسات الطائفية، نجح السياسيون بالاغتناء وإغناء زملائهم على حساب الشعب. فبالنسبة اليهم، المواطن مفيد فقط للإدلاء بصوته خلال الموسم الانتخابي.
في خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، عملت الحكومات اللبنانية المتعاقبة والنخب السياسية جاهدةً على تقويض جميع أشكال المساءلة والمحاسبة في نظامنا السياسي. فقد عمدت الى تشكيل الدوائر الانتخابية بطريقة يوزّع بها الموجودون في السلطة أغلبية المقاعد بدون أن يخوضوا في أي منافسة جدية، ما يُفقد الانتخابات كل معناها. وكنتيجة لذلك، فشل مجلس النواب في ممارسة دوريه الأساسيين: سنّ التشريعات والرقابة على الحكومة. لقد بقيت السلطة القضائية خاضعة للمطالب السياسية، بما في ذلك قرار المجلس الدستوري الأخير القاضي بالموافقة بدون نقاش على التمديد غير القانوني لولاية البرلمان. تظل الهيئات الرقابية، التابعة بشكل مربك لرئاسة مجلس الوزراء، تعاني نقصا في الموظفين وتذهب عمليات إفصاحها عن الانتهاكات أدراج الرياح. أما النقابات العمالية التي كان بوسعها مواجهة الخطاب الطائفي السائد، بتسليط الضوء على الاختلافات بين الميسورين والمعوزين، فقد جرى سحقها على نحو شبه كلّي منذ أوائل التسعينيات. وقد حصد ظهور هيئة الأساتذة والمعلمين عام 2013 لقيادة حملة تعديل سلسلة الرواتب والأجور في القطاع العام غضب كل من الأحزاب السياسية الرئيسية تقريباً. وكان الهدف من ذلك الحرص على إفشال محاولة تغيير الخطاب السياسي المهيمن من خطاب طائفي الى خطاب طبقي. باختصار، نجح السياسيون في حماية النظام السياسي من أي شكل من أشكال المساءلة.
مما لا شك فيه أن صعود الحركة الاحتجاجية الأخيرة، التي فجّرتها أزمة النفايات، أخذ المؤسسة السياسية على حين غرة. وقد حاولت النخب السياسية من التيار الوطني الحر، وحزب الكتائب، والحزب التقدمي الاشتراكي، استغلال المتظاهرين في البداية من خلال دعمها لهم، في محاولة منها لتسجيل نقاط لدى ناخبيها في وجه خصومها السياسيين. أحزاب أخرى، مثل تيار المستقبل، نبذت المتظاهرين، فيما تمنى لهم حزب الله «التوفيق». في هذه الأثناء، اتهمهم كثيرون بأنهم يساريون، أو أنصار حزب الله، أو عملاء لأميركا، أو حتى عملاء لدولة عربية صغيرة، فاضحين بذلك محاولاتهم اليائسة لتقويض برنامج عمل المتظاهرين.

يدافعون عن رأسمالية المحسوبية حيث الثروة من صنع الحكومة


ومن خلال اعتماد مثل هذه المواقف، أثبت السياسيون من جميع هذه الأحزاب، مدى استخفافهم باحتياجات المواطنين، وبيّنوا مرةً أخرى مدى ابتعادهم وانفصالهم عن الواقع على الأرض. فهم عاجزون حتى عن تصور فكرة سعي الناس لمحاسبتهم أو حتى قدرتهم على ذلك. هذا مفهوم ترفضه النخبة بشكل قاطع، والطريقة الوحيدة التي تملكها لتفسير هذه الاحتجاجات هي التلاعب والتآمر، كأن تقول بوجود طرف آخر وراء المتظاهرين يسعى الى تقويض ‹سلطتي›. هذا مثير للضحك، ولا سيما عندما نتذكر كيف جرى اختيار بعض الوزراء في هذه الحكومة على يد دولة عربية «ليست بالصغيرة». وأن يذهب أعضاء هذه الحكومة التي ألّفتها، على الأقل في جزء منها، قوى خارجية، الى حدّ اتهام المتظاهرين بأنهم عملاء، هو النفاق بحدّ ذاته. وعندما لم تعط هذه الاتهامات أي نتيجة، انضمت إلى النخبة السياسية منظمات الأعمال وبعض وسائل الإعلام التي ادّعت انها تتعاطف مع مطالب المتظاهرين، ولكنها لا توافق على الطرق التي اعتمدوها للتعبير عن تلك المطالب.
في الواقع، ما جعل المواطنين يضيقون ذرعاً بهذا النظام الذي خذلهم مراراً وتكراراً، هو تجاهل احتياجاتهم إلى المياه، والكهرباء، وإدارة النفايات، وشبكات الطرق، وغيرها. أضف إلى ذلك أن لامبالاة النواب بالحق الديمقراطي في اجراء الانتخابات النيابية، هي التي أثارت غضب الناس. مرةً أخرى، فشل السياسيون في استشعار نبض الشارع، ظناً منهم أنهم يستطيعون الإفلات من العقاب. لم يحرّض المتظاهرون على الفوضى كما تدّعي بعض النخب، بل أحدثوا خللاً في نظام توزيع وتقاسم موارد الدولة بين أفراد النخبة السياسية.
أما الاتهام الآخر الموجه إلى المتظاهرين فهو أنهم يلحقون الضرر بالممتلكات العامة والخاصة. ولكن ينبغي لنا ألّا ننسى أن النخبة السياسية وأصدقاءها قد اغتصبوا الممتلكات العامة والساحلية، ولجأوا الى الحيل القانونية لوضع اليد على مواقع رئيسية مثل منطقة الداليه، ولخصخصة الأراضي العامة في منطقة الزيتونة مقابل سعر بخس، فيما السياسيون يحشون جيوبهم. هؤلاء السياسيون هم أنفسهم أغلقوا الشوارع والأحياء العامة لضمان أمن معاقلهم الخاصة، ما أساء الى حركة التنقل والمواصلات في المدينة، وأثّر سلباً في القطاع الخاص. وهم الذين أشرفوا على سوء إدارة الممتلكات العامة على نطاق واسع، ما فتح المجال واسعاً أمام السرقة واستشراء الفساد.
السيد نقولا شماس، رئيس جمعية تجار بيروت، ذهب أبعد من ذلك في الدفاع عن وسط بيروت، مدعياً أنّ هذا وجه لبنان «الحضاري»، وأنهم، أي جمعية تجار بيروت، لن يسمحوا للمتظاهرين بتقويضه. في الواقع، وبالنسبة لأولئك الذين لم يلاحظوا ذلك حتى الآن، يعاني وسط بيروت الاختلال الوظيفي منذ فترة طويلة. ولا يعود السبب الى المتظاهرين، بل الى سوء الدراسة في الأساس، حيث كان الغرض الفعلي من إعمار وسط المدينة، خدمة حفنة صغيرة من الأغنياء بدلاً من تحويله الى مركز حقيقي مفتوح للجميع، يعج بالناس وينبض بالحياة.
وفي خطابه الشائن، ذهب السيد شماس أبعد من ذلك، حيث دعا الى حماية النظام الاقتصادي الليبرالي الذي تهدّده حفنة من الاقتصاديين «الشيوعيين». ما غاب عن باله هو أن النظام الذي يسعى الى حمايته بشراسة ليس اقتصاد السوق القائم على التنافسية في المقام الأول، بل هو نظام يعطي الامتيازات للأغنياء من خلال تدخل قوي من جانب الحكومة. ولا بدّ من تذكيره بأن نظامنا الضريبي تراجعي الى حدّ بعيد، حيث يأتي لمصلحة الأغنياء على حساب الفقراء؛ وكيف تتحكّم القلّة الغنية وأصحاب السلطة في عملية التنظيم الاقتصادي في بلدنا، من خلال الوكالات الحصرية؛ وكيف ولّد هذا النظام بالذات عدم المساواة في الدخل، حيث يملك 0.3٪ من السكان نصف ثروة البلاد. ما يدافع عنه ليس النظام الاقتصادي الليبرالي الذي نطمح إليه، أي الاقتصاد التنافسي والمنتج الذي تنظمه الدولة القوية، بل هو يدافع عن رأسمالية المحسوبية (cronycapitalism) حيث الثروة هي من صنع الحكومة التي تمنح وبشكل فاضح الامتيازات لعدد قليل من كبار أصحاب الأعمال، لا يد السوق الخفية التي تكافئ ذوي الجدارة.
ليس من المستغرب أن نرى أنّ أي كلام عن المساءلة والمحاسبة تحاربه النخب السياسية والاقتصادية بشراسة تامة. هذا أمر يرفضون الخضوع له. فهذا الخطاب يقوّض وجودهم، وهم على استعداد للذهاب إلى أبعد ما يمكن من أجل محاربته، ولكن، إذا امتنعنا عن دعم هذا الخطاب، وعن مراقبة الحكومة ومحاسبتها، فسيكون محكوماً علينا بالحصول على أسوأ الخدمات، في حال حصولنا على أي منها، وستزداد الأمور سوءاً إذا فشل المتظاهرون في مساعيهم.
لبنان على مفترق طرق. والمسألة ليست حول 8 آذار مقابل 14 آذار، وليست حول سلاح حزب الله مقابل المحكمة الخاصة بلبنان، وليست حول إيران مقابل المملكة العربية السعودية، بل هي تتعلق بالنظام السياسي الذي يستخدم الخطاب الطائفي لمصلحة الزعماء السياسيين والنخبة الاقتصادية على حساب الغالبية العظمى من الشعب، مقابل عقد اجتماعي جديد حيث تقوم الدولة بخدمة مواطنيها، وحيث الأحزاب السياسية تمثّل الشعب، وحيث المساءلة هي عمودها التأسيسي.
ولا بدّ من اختيار هذا الأخير إذا أردنا استعادة حقوقنا كمواطنين، وإلا فسيبقى الناس مجرّد زبائن خاضعين للسياسيين ولأدواتهم الطائفية، يغادرون بلادهم أو يبكون على انهيارها. حان الوقت لاتخاذ القرار.
* المدير التنفيذي
للمركز اللبناني للدراسات (LCPS)




8.5 مليارات دولار

تجنّد رئيس الهيئات الاقتصادية الوزير السابق عدنان القصار، رئيس اتحاد الغرف اللبنانية محمد شقير، رئيس جمعية مصارف لبنان جوزف طربيه، رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس، ورئيس المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات (إيدال) نبيل عيتاني... للاعلان عن «مؤتمر الاقتصاد الاغترابي... لبنان جسر للتواصل»، الذي ينعقد، برعاية رئيس مجلس النواب نبيه بري، في بيروت، في 15 كانون الأول المقبل. عقدوا امس (جميعا) مؤتمرا صحافيا في فندق «فينيسيا»، وتوسلوا كل خطاب ايجابي لتمجيد الهجرة وتشجيع من تبقى من اللبنانيين على خوضها، بوصفها عملا وطنيا بطوليا يساهم في استمرار النظام القائم، الذي يغني القلّة ويفقر الجميع، ويمنع تهاويه. قال القصار ان «الاغتراب اللبناني هو الثروة الأهم للبنان». وجزم شقير «لولا الاغتراب لكانت الكارثة الاقتصادية والاجتماعية قد حلت منذ زمن». ولفت طربية الى ان «لبنان بلد مصدّر دائم للكفاءات (...) يضخون نحو 8.5 مليارات دولار سنويا في شرايين الاقتصاد الوطني». وفلسف شماس الهجرة اللبنانية بوصفها «اليد الخفية التي لطالما دعمت لبنان وحمته في أصعب الظروف». امّا عيتاني، فتغنّى «بأن لبنان يحتل المرتبة الأولى في المنطقة والسادسة عشرة عالميا على صعيد تحويلات المغتربين».