يتولى الصيدلي مهمة تصريف «السلعة»، مثله مثل أي تاجر. هكذا تصبح الصيدلية دكانا، ويصبح المريض زبوناً.
تبدأ الحكاية من العروض التي يتلقاها صيادلة من شركات استيراد الدواء ووكلاء بيعه في لبنان. يروي بعض الصيادلة لـ«الأخبار» كيف يضطرون في مقابل هذه العروض أن يصرّفوا الدواء بأي وسيلة كانت، في حين أن «واجبنا ــ كصيادلة ــ هو الحد من استعمال الأدوية»، وفق ما يقول الصيدلي علي صفا، عضو نقابة الصيادلة.

عروض مغرية للصيادلة

يشير صفا إلى أن الوكلاء أغرقوا الصيدليات بالعروض المغرية فعلا، والتي تصل إلى حد إعطاء 18 علبة مجانًا مقابل كل 20 علبة دواء يشتريها الصيدلي، هذا في ما يخص دواء خاصاً لعلاج قرحة المعدة، في حين قد تصل العروض على الأدوية المضادة للالتهابات إلى 110 علب مقابل شراء 100علبة، وقيمة هذه العروض تُضاف إلى ربح الصيدلي المحدد بنسبة 22.5% من سعر المبيع، وهي النسبة المحددة كجعالة رسمية وشرعية للصيدلي، التي بسببها منعت المادة 80 من قانون مزاولة مهنة الصيدلة زيادة السعر او تخفيضه على حد سواء.
تمنع وزارة الصحة إعطاء عروض مجانية على الأدوية. الا انها لا تتشدد في تطبيق هذا المبدأ، وتستعيض عنه احيانا بفرض خفض سعر مبيع الدواء للمريض بنسبة العروض التي تحصل عليها الصيدليات. الا ان الاكثرية لا تلتزم بالمنع والخفض، ويؤكد صفا أن الأرباح الحالية التي يجنيها الصيدلي نتيجة هذه العروض تتراوح بين 65 و70%، وهذا ليس من حقه أبداً.
ولكن كيف يستطيع الصيدلي اخفاء ارباحه الفعلية في ظل موجب تقديم حساباته المالية للتفتيش الصيدلي؟ يرجّح صفا إمكانية تلاعب الوكيل بسعر الدواء من المنشأ، أي أن هناك تواطؤاً واضحاً من جانب المعامل والموردين في الخارج، الأمر الذي يسهّل على الوكيل تسعير الدواء بـ20 ألف ليرة، على سبيل المثال، مدعياً أنه اشتراه بـ12 ألف ليرة، في حين أن قيمته الحقيقية يمكن أن لا تتجاوز 5 آلاف ليرة. كذلك يمكن للصيدلي إخراج هذه العروض من الحسابات المالية الخاصة بصيدليته؟ يتحدث صفا عن تجربته الشخصية، ويؤكد أنها تتكرر مع كل صيدلي، إذ يتم تثبيت هذه العروض على الفاتورة بشكل جانبي (بالقلم الرصاص مثلا)، وهي بالتالي لا تدخل في صلب حسابات المبيع والشراء الرسمية، في حين أن الصيدلي يحتفظ بها لنفسه (من خلال ادخال الفاتورة scan إلى حاسوبه الخاص) لكي يتمكن من إجراء جردة لمبيعاته واحتساب أرباحه الصافية. وفي المقابل فإن الوكيل يحفظ حقه من خلال ورقة جانبية توثق استلام «البضاعة»، يوقع عليها الصيدلي ويأخذها المندوب.

الفساد في الدواء أيضاً

تلفت مصادر في نقابة الصيادلة إلى ان هذا الأمر أثير سابقا داخل مجلس النقابة، ولكن هناك «ما يشبه التحالف بين نقابة الصيادلة ونقابة المستوردين، الأمر الذي يسمح بتمرير هذه الصفقات المريبة». وتشير هذه المصادر الى ادلة كثيرة على وجود مثل هذا التحالف، منها، على سبيل المثال، ان النقيب يمكن ان يكون هو نفسه من المستوردين.
تقول هذه المصادر انه لا يمكن الرهان على القاعدة النقابية للانتفاض على هذا الواقع وحماية مهنة الصيدلة من الاعيب التجّار، اذ ان عدداً كبيراً من الصيادلة هم في الواقع موظفون لدى الشركات المستوردة والموزعة للدواء في لبنان او لدى اصحاب الصيدليات. وبحسب المصادر نفسها فإن اللعبة الانتخابية داخل النقابة صارت محكومة لهذا «الكارتيل»، حيث للمستوردين وزن مؤثر في صعود وهبوط الحظوظ الانتخابية، فضلا عن التغطية السياسية التي يؤمنها بعض السياسيين، وجزء منهم يعد من كبار المستوردين او يرتبط معهم بعلاقات معروفة.
في حال التدقيق بملكية بعض الشركات المستوردة للدواء في لبنان، يتبين مدى النفوذ الذي يمكن ان يمارسه مستوردو الادوية، فشركة «فرعون» مثلا هي للنائب ميشال فرعون وشركتا «كتافاغو» و«ماكروميد» يملكهما نقيب الصيادلة الحالي ربيع حسونة.
هل يجوز التغاضي عن هذا الواقع؟ ان ترك الدواء خاضعا لمنظومة الفساد يضع صحة الناس تحت رحمة ضمير الصيدلي الذي يتلقى العروض السخية، فهو سيعمل اي شيء لتصريف «البضاعة» حتى لا تكسد، فضلا عن تأثير هذه المنظومة على سعر الدواء الذي يزيد كثيرا عن سعره الحقيقي. فالمريض يشتري الدواء بـ20 الف ليرة مثلا، في حين أنه يجب أن يدفع ثمنه 9 آلاف ليرة فقط، وفقاً للقانون الذي يحدد نسبة ربح الوكيل والصيدلي، وبالتالي سعر المبيع.
فضيحة التلاعب بأسعار الدواء تبدأ ولا تنتهي، تطفو على سطح المحاسبة والملاحقة أحياناً، ولكنها سرعان ما تتراجع بقدرة مستفيد متنفذ، مثلما حدث بموضوع الغش في نوعية الدواء، ولا سيما أدوية القلب، حيث بادرت الوزارة إلى إقفال عدد من الصيدليات مؤقتاً كإجراء تأديبي. ومن الأدلة الواضحة على هذا التلاعب، خفض سعر دواء معين أخيراً من 80 ألف ليرة إلى 20 ألفاً فقط، وذلك بناء على قرار وزارة الصحة رقم (51/1)، إذ تبين لها وجود فارق كبير بين سعر هذا الدواء في لبنان، وسعره في الدول المجاورة، وهذا يؤكد وجود تلاعب بالتواطؤ بين المصدر والوكلاء، يستفيد منه هؤلاء حصراً، وهم ما زالوا يمتنعون عن تعويض الصيادلة فروقات الخفض، وبعض الوكلاء أصلا لم يعلموا الصيادلة بحصول هذا الخفض، وكل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى حصول فوضى عارمة، ووجود اكثر من سعر للدواء نفسه، وبالتالي فحش في الأرباح، وخلل في الأداء المهني يتسلل إلى وظيفة الصيدلي، المتمثلة في كونه وسيطاً أميناً بين الطبيب والمريض.

ادوية منتهية الصلاحية

وهناك أمر لا يقل خطورة وهو لجوء بعض المستوردين إلى ابتكار مغريات جديدة للصيادلة، تتمثل في تقديم عرض معين مقابل استلامه كميات من الأدوية التي تنتهي مدة صلاحيتها بعد ثلاثة أشهر (أكثر أو أقل قليلا)، فيما القانون يفرض على الصيدلي عدم بيع أي دواء تاريخ صلاحيته يقع ضمن هذه المدة. فالوكيل ملزم باستلام اية كمية من الأدوية يقترب تاريخ انتهاء صلاحيتها من 3 أشهر، والقصد من ذلك حماية مصلحة الصيدلي والمستهلك على حد سواء، لكي لا يعود الأول مضطراً لتصريف الأدوية كيفما كان، ولا يكون الآخر عرضة لاستهلاك دواء مشكوك في صلاحيته. الا ان الامور لا تحصل على هذا المنوال، اذ تبيّن وثيقة حصلت عليها «الأخبار» ان بعض شركات تراسل الصيادلة علناً، استناداً إلى بروتوكول عمل بين نقابتي الصيادلة والمستوردين، «بخصوص المستحضرات الطبية غير القابلة للإرجاع او الاستبدال قبل انتهاء صلاحيتها»، وأنها خصصت هذه الادوية بدمغة زرقاء بدل الصفراء لتنبيه الصيادلة! وما يفعله الوكيل، الملزم بإعادة هذا النوع من الأدوية تمهيداً لإتلافها بالطرق المناسبة، ما هو إلا التفاف على القانون متوخياً أيضاً أسلوب العروض المغرية، ولكن يُضاف إليها شرط، يشكل خطراً حقيقياً على صحة المستهلك، وهو عدم ارجاع الصيدلي أية أدوية ضمن هذا العرض حتى بعد انتهاء صلاحيتها. وهذا يعني وضع الصيدلي امام مصلحة له بتصريف الأدوية حتى على حساب صحة المريض. وتروي عناية، الأم الثلاثينية، كيف فوجئت بعلبة حليب أطفال اشترتها من إحدى الصيدليات، مدة صلاحيتها كانت قد انتهت فعلا.
لا تقتصر الحكاية على كل هذه التفاصيل، بل ان الوكلاء والصيدليات يخالفون القانون عبر الترويج «الدعائي» لبعض ماركات الادوية. فبعض الصيدليات يضع «بوسترات» ترويجية أو اعلانات بارزة مقابل بدل مالي من الوكلاء.