في بلد عاد فيه الاستيراد إلى مستويات ما قبل الأزمة، بينما انخفض حجم الناتج المحلّي بنحو 66% وتدنّت القوّة الشرائية للأجور في سياق تسجيل معدلات تضخّم مرتفعة، انعكس الأمر بوضوح على بنية طبقات المجتمع وعلى الفوارق بينها. فقد تبيّن أن الشريحة التي كانت الأكبر عدداً، أي متوسطي الدخل، انكمشت بشكل لافت، وسقط في بؤرة الفقر عدد كبير من الناس وصار للطبقة الثرية قاعدة نحيفة جداً. فالأزمة النقدية والمصرفية فرضت إعادة هيكلة قسرية على المجتمع ووسّعت الهوّة بين خطوط الشرائح، دافعة أولئك الذين كانوا يعيشون على خطوط التماس نحو الأعلى أو الأدنى. هؤلاء كانوا الأكثرية التي تتنقّل بين خطوط الفقر وبين متوسطي الدخل، إلا أن الخسائر التي لحقت بمدّخراتهم وبممتلكاتهم، سحقتهم ودفعتهم بعيداً عن المستويات التي كانوا فيها.
(هيثم الموسوي)

يمكن ملاحظة هذا الأمر من خلال النظر إلى خصائص العائلات الفقيرة. فالذين يُصنّفون فقراء، بمعايير البنك الدولي، ارتفعت نسبتهم من 12% إلى 44% خلال 10 سنوات، كما أن خصائصهم أصبحت بارزة أكثر. بمعنى أوضح، لا تزال خصائص الأسر الفقيرة ثابتة مثل مستوى التحصيل العلمي وعدد أفراد الأسرة وغيرهما من العوامل، إنما تعمّقت هذه العوامل إذا قورنت بخصائص الأثرياء. فعلى سبيل المثال، لا يزال مستوى التحصيل العلمي لربّ الأسرة عاملاً مساهماً في فقر الأسر. وبحسب البنك الدولي، فإن الأسر التي يمتلك أربابها مؤهلات علمية أعلى من الثانوية، كانت في عام 2012 أقل عرضة للفقر بنسبة 9%، بينما أصبحت أقل عرضة بنسبة 22% في عام 2022. المقصود أن احتمال وقوع الأسر في الفقر التي لا يملك معيلها تحصيلاً علمياً كافياً، أصبح في عام 2022 أكبر مما كان عليه في عام 2012. وفي هذا السياق، فإن حجم الأسرة ينطوي على دلالة ما في الاتجاه نفسه، فقد ازداد تأثير عدد الأطفال في الأسرة على احتمال حصول الفقر، إذ تُظهر أرقام البنك الدولي أن احتمالات وجود الأسر التي تتضمّن خمسة أطفال تحت خط الفقر، أعلى بنسبة 60% مقارنة مع الأسر التي لا تتضمّن أطفالاً، وهذه النسبة ارتفعت في عام 2022 مقارنة مع عام 2012 عندما كانت هذه النسبة تبلغ نحو 32%.
من ناحية أخرى، أصبح تلقّي التحويلات المالية من الخارج عنصراً أكثر أهمية وتأثيراً في تحديد تصنيف الأسرة فوق أو تحت خط الفقر مقارنة بالأمر في عام 2012. فقد أظهرت أرقام البنك الدولي، أن الأسر التي تلقّت تحويلات مالية من الخارج في عام 2022 أصبحت أقل عرضة للفقر بنسبة 5%، بينما كانت هذه النسبة 4% في عام 2012، ما يعني أن تأثير هذا العامل أصبح أكثر عمقاً.
وهذه النماذج من الفروقات تقود مباشرة نحو انعكاس الأزمة على اتساع اللامساواة في الدخل. أحد أهم العوامل في هذا الأمر، هو ما يتعلّق بالعملة التي يتلقّى فيها العمّال دخلهم. فقد توسّع الفرق بين الأسر التي كانت تتلقّى أجورها بالدولار قبل الأزمة واستمرت على هذا النحو بعدها، والأسر التي لا تتلقّى الدخل بالدولار. أبرز مثال على ذلك، الموظفون في القطاع العام الذين كانت أجورهم قبل الأزمة تنافس أجور العاملين في القطاع الخاص، إنما بعد انهيار العملة أصبحت أجور العاملين في القطاع العام تفرض تصنيفهم ضمن خطوط الفقر.
وخطّ الفقر، بحسب البنك الدولي، بلغ في عام 2022 نحو 2.93 دولار للفرد في اليوم على أساس معدّل سعر صرف يبلغ 40 ألف ليرة في ذلك الوقت (إذا احتُسبت الخطوط بشكل حسابي على سعر صرف اليوم فإنها تبلغ 1.6 دولار يومياً)، ومع افتراض أن الأسرة تتضمّن معدّل أربعة أفراد، يعادل هذا الرقم نحو 350 دولاراً للأسرة الواحدة شهرياً. وبحسب الأجور الحالية في القطاع العام، فإن معظم الموظفين الرسميين لا تتخطّى أجورهم هذا الرقم.
لم تتغيّر خصائص الأسر الفقيرة بين عامَي 2012 و2023 لكنها صارت بارزة أكثر


هذه المؤشرات تقدّم فكرة واضحة عن اتساع فجوة اللامساواة التي لم يقاربها البنك الدولي بصورة واضحة في تقريره الأخير، إذ إنه لم يشر بأي شكل من الأشكال إلى التغيرات التي طرأت على تركّز الدخل بالتوازي مع الاستهلاك، بل اكتفى بعرض التغيّرات التي طرأت على مؤشّر Gini الذي يقيس حجم اللامساواة، إذ كان يبلغ 0.4 في عام 2012 ثم تعمّق نحو 0.6 في عام 2022. الثابت أنه في عام 2012 كانت شريحة الـ10% الأعلى دخلاً في لبنان تستحوذ على نحو 54.7% من الدخل القومي، وشريحة الـ1% الأعلى دخلاً كانت تستحوذ على 20.9% من الدخل القومي، وبلغت حصّة شريحة الـ50% الأقل دخلاً في لبنان نحو 10% من الدخل القومي، لكن الأكيد بحسب مؤشّر Gini أن هذا التركّز في العلاقة بين شريحة الدخل وقدراتها الاستهلاكية ازداد وأصبح أكثر حدّة، ما يكفل إثبات توسّع الفجوة بين الطبقات.
ومن المسائل التي لا تتم دراستها من قبل المؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي، هي فرص الخروج من الفقر، وهو أحد المعايير الاقتصادية التي يمكن أن تُمثّل حجم اللامساواة الحقيقي في الفرص المتاحة اقتصادياً. وهذا أحد الأمور التي تغيّرت بشدّة مع الأزمة، إذ إن الأمور أصبحت أصعب على الأفراد القادمين من الأسر الفقيرة للخروج من الفقر. فعلى سبيل المثال، كانت فرص الحصول على مستوى دراسي أفضل، أسهل على أفراد الأسر الفقيرة، وهي كانت أحد الطرق التي يمكن أن تُخلّص هؤلاء الأفراد من الفقر، من خلال الحصول على وظائف أفضل ذات دخل أعلى، إلا أن الأزمة جعلت الحصول على التعليم أصعب وأكثر كلفة مع ارتفاع أسعار التعليم من أول 2019 حتى نيسان الماضي بنحو 30 مرة. يُعد هذا الأمر أحد الأمثلة فقط، عن الأمور التي أصبحت تُصعّب التخلّص من الفقر، فيمكن الحديث أيضاً عن انخفاض مستوى التعليم أصلاً، وتقلّص فرص العمل وتزايد المنافسة على الوظائف وغيرها.